كشفته الحرب الروسية على أوكرانيا سقوطا أخلاقيا مريعا في التعاطي مع ضحايا الحرب!
مع دخول الألفية الجديدة، عادت الحروب والغزو الأجنبي إلى الواجهة مجددا، مع الغزو الأميركي للعراق.
كبرى جرائم العقل الحداثي الغربي هي تدشين آخر استعمار استيطاني بالعصر الحديث: الاستعمار الصهيوني لفلسطين.
المشروع الصهيوني بحد ذاته أكبر دليل على فشل المشروع الحداثي الغربي وادعاءاته المضللّة حول العقلانية والحرية والسلام.
انطلقت الحملات الاستعمارية الأوروبية أواخر القرن 18 واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، أي لمدة 200 عام تقريبا.
طفحت تقارير وتصريحات معلقّين ومراسلين ومسؤولين غربيين بعنصرية مقيتة تعكس كراهية كامنة وتقزز واحتقار لكل ما هو غير غربي.
كان العقل الحداثي الأوروبي يخوض حروبا مستعرة للسيطرة والاحتلال، سفك خلالها كثيرا من الدماء ليس خارج القارة الأوروبية فقط بل في القلب منها.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات اعتبر مفكرون غربيون أن الغرب انتصر والعالم يتجه نحو “نهاية التاريخ” حيث يعم السلام والرخاء والرأسمالية.
تناقض كبير بين ادعاءات ترويج المشروع الليبرالي الغربي عالميا والسياسات الغربية، خاصة الأميركية، التي هي على النقيض تماما من هذه الادعاءات من جهة أخرى.
* * *
بقلم: خليل العناني
يُعرف القرن العشرين بأنه قرن الحروب، وأبرز حروبه كانت الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين راح ضحيتهما ما بين 80 إلى 100 مليون قتيل، حسب بعض الإحصاءات.
وقد كان البعض يظن أن العقل الحداثي الأوروبي، الذي بدأ رحلته منذ أواخر القرن السابع عشر من خلال ما يُعرف بعصر “التنوير”، لن يسمح بوقوع صراعات وحروب كما كانت عليه الحال خلال القرون الوسطى، وأن إشراقات عصر الحداثة سوف تنير العقل السياسي الأوروبي بحيث يتغلب التعاون والسلام على التنازع والصراع.
وهو ما ثبت زيفه وخطأه بعد عقود قليلة فقط، حيث انطلقت الحملات الاستعمارية الأوروبية أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، أي لمدة 200 عام ونصف تقريبا، كان العقل الحداثي الأوروبي يخوض حروبا مستعرة من أجل السيطرة والاحتلال، خضّب خلالها الكثير من الدماء ليس فقط خارج القارة الأوروبية، ولكن أيضا في القلب منها.
وقد تكررت نفس النغمة “الحداثية” خلال مرحلة الحرب الباردة التي امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منتصف الأربعينيات من القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات، بحيث لم تقع حرب كبرى بين القطبين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة، وذلك رغم وقوع مذابح أهلية مروّعة سواء في رواندا وبورندي أو في البوسنة والهرسك خلال عقد التسعينيات.
ومع سقوط الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات، اعتبر بعض المفكرين الغربيين أن الغرب قد انتصر وأن العالم يتجه ناحية “نهاية التاريخ” حيث يعم السلام والرخاء والرأسمالية.
ولكن مع دخول الألفية الجديدة، عادت الحروب والغزو الأجنبي إلى الواجهة مجددا، مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وقبله غزو واحتلال أفغانستان عام 2002 بمشاركة الدول الغربية عبر مظلة حلف شمال الأطلسي (ناتو).
ولا تزال آثار جرائم العقل الحداثي الغربي ماثلة أمام أعيننا في كلا البلدين. أما كبرى الجرائم التي ارتكبها هذا العقل، فتتمثل في تدشين آخر استعمار استيطاني في العصر الحديث، وهو الاستعمار الصهيوني لفلسطين الذي يحظى بدعم غير محدود من الغرب خاصة الولايات المتحدة، والذي هو بحد ذاته أكبر دليل على فشل المشروع الحداثي الغربي وادعاءاته المضللّة حول العقلانية والحرية والسلام.
حتى وقت قريب كان يجادل بعض الحداثيين، سواء الغربيين أو تابعيهم في العالم العربي، بأن مصطلحات “الغزو” و”الاحتلال” و”الحروب” سوف تصبح جزءا من الماضي، وأننا قد وصلنا إلى “نهاية التاريخ” الذي يعني انتقال البشرية إلى مرحلة جديدة من التعايش السلمي، نظرا لانتصار العقل وسيادته وغلبة نزعته “الإنسانوية” على أخلاقه، ومن شأن ذلك وقف الصراعات المشتعلة حول العالم والعيش في ظلال “الليبرالية” الغربية والتمتع بوعودها حول الرخاء والازدهار والسلام.
وقد تم تبني وترويج هذه الوعود الكاذبة في كبريات الدوريات الغربية، واستضافة من يطلقونها باعتبارهم “فلاسفة” و”مفكرين” كبارا لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم. وفي حين كانت هناك أصوات ناقدة لهذه الأطروحات المتفائلة، إلا أنه لم يتم الالتفات إليها، واتُهم أصحابها بأنهم “واقعيون متشائمون”، وتم الاستسلام لمنطق ومقولات مدّعي العقلانية والحداثة.
ومؤخرا، عندما انتقد المفكر والباحث العربي وائل حلاّق مشروع الحداثة الغربي خلال مقابلته مع الإعلامي بقناة الجزيرة على الظفيري، اعتبر البعض نقده أمرا متطرفا ومتشددا، بل وصل الأمر بأحدهم كي يعتبر حلاّق نسخة جديدة من سيد قطب، وذلك فيما يخص موقفه من الحضارة الغربية وإرثها الاستعماري، وكأنه لا يجوز نقد هذه الحضارة أو الاختلاف معها ومع منتجها الفكري والسياسي!!
وعلى ما يبدو فإن هؤلاء لم يفهموا مقصد حلاّق من نقد مشروع الحداثة على نحو دقيق، تماما مثلما لم يفهم المبشرّون بنهاية التاريخ ما قصده كتّاب آخرون يخالفونهم الرأي والرؤية حول مسار “الحتمية الحداثية” في نسختها الغربية، وذلك رغم أن الوقائع السياسية تؤكد فشل هذا المسار بشكل لا يمكن أن تخطئه العين.
خذ مثلا ما كتبه وقاله، ولا يزال، عالم السياسة الأميركي جون ميرشايمر بشأن أوهام المشروع الليبرالي الغربي، وسوف أفرد مساحة لاحقة لهذا الموضوع، بحول الله،
إذ يكشف في رؤيته التناقض الكبير بين ادعاءات ترويج هذا المشروع حول العالم من جهة، والسياسات الغربية، خاصة الأميركية، التي هي على النقيض تماما من هذه الادعاءات من جهة أخرى.
وهو ذاته، ميرشايمر الذي حمّل الغرب، ولا يزال يحمله، مسؤولية ما يجري حاليا في أوكرانيا، واعتبر أن الحرب الروسية عليها خطأ غربيا بامتياز. تماما مثلما فعل زميله ستيفن والت، البروفيسور بجامعة هارفرد، الذي ينتقد بشدة فشل السياسة الخارجية الأميركية على مدار آخر عقدين وذلك من دون أن يلتفت أحدا لنقده.
صحيح أن كلا من ميرشايمر ووالت من أبناء المشروع الليبرالي الغربي، بل ويقدرانه ويبجلاّنه لأسباب ذاتية، إلا أن هذا لم يمنعهما من توجيه النقد اللاذع لمشاكل هذا المشروع خاصة في محاولات فرضه قسرا على الدول والمجتمعات الأخرى تحت ادعاءات مختلفة.
أما أسوأ ما كشفته الحرب الروسية على أوكرانيا، فيتمثل في السقوط الأخلاقي المريع في التعاطي مع ضحايا الحرب، الذي فضحته الكاميرات أمام الشاشات حين طفحت تقارير وتصريحات بعض المعلقّين والمراسلين والمسؤولين الغربيين بعنصرية مقيتة تعكس كراهية كامنة وتقزز واحتقار لكل ما هو غير غربي.
وقد خرجت هذه التعليقات بقدر من العفوية والتلقائية بشكل كان مفاجئا للبعض. صحيح أنه لا يمكن التعميم، ولكن دلالات هذا السقوط لا يمكن إغفالها أو تجاهلها.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: