لا أدري من أي منطلق ينطلق عربٌ كثيرون، على سبيل المثال، في تأييد الغزو الروسي لأوكرانيا؟
غزو واضح واعتداء من دولة على أخرى جارة لها في وضح النهار وبلا أي مبرّرات غير المبررات التقليدية التي يبديها الغزاة والمعتدون في كل زمان.
بعض الطغاة والمعتدين والغزاة أولياء بعض وعندما ينحاز ديكتاتور لجانب ديكتاتور آخر ويصطف معه فيما يقوم به من عدوان إنما هو انحياز ذاتي!
هل تنحاز الشعوب المقهورة للغزو لفرط خوفها المبالغ به من الديكتاتور الحاكم ويغطي رقعة بلادها فيفيض حولها حتى يغطّي الأرض؟ أم أن تلك الشعوب تفعل ذلك بحكم العادة؟
* * *
الآن، وبعد أسابيع مرّت على بدء العدوان الروسي على أوكرانيا، تميّزت المواقف من ذلك العدوان، بشكل واضح وجلي، على صعيد الشعوب، على الأقل بين فسطاطين؛ في الأول موقف ضد العدوان وتتبنّاه الشعوب الحرة أو التي تتمتع بهامشٍ بغض النظر عن حجمه، من الحرية والديمقراطية، والآخر مع العدوان وتتبنّاه الشعوب المقهورة والمحكومة بديكتاتوريات، بغض النظر عن حجم الاستبداد الذي تتعامل به تلك الديكتاتوريات مع شعوبها كلّ على حدة!
ورغم أن المواقف أصبحت واضحة إلى حد كبير، مع الاعتراف بأن ثمة استثناءات قليلة ظهرت حتى في روسيا رفضا للعدوان، إلا أن أسبابها ما زالت غير واضحة تماما، على الأقل بالنسبة لي.
فلا أدري من أي منطلق ينطلق عربٌ كثيرون، على سبيل المثال، في تأييد الغزو الروسي لأوكرانيا؟ فهذا غزو واضح واعتداء من دولة على دولة أخرى جارة لها في وضح النهار، وبلا أي مبرّرات غير تلك المبررات التقليدية التي يبديها الغزاة والمعتدون في كل زمان.
حدث هذا دائما، ولعل أوضح نماذجه نموذج غزو العراق الكويت فجر الثاني من أغسطس/ آب 1990. ولم تكن مبرّرات صدّام حسين يومها تختلف عن مبرّرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غزو بلاده أوكرانيا.
وكما حدث بعد ذلك الغزو العراقي، يحدث الآن بعد الغزو الروسي؛ اصطفاف واضح، أحيانا معلن، وأحيانا أخرى غير معلن، من الدول العربية الديكتاتورية المحكومة بواسطة طغاة من دون أي شكل أو هامشٍ من أشكال الديمقراطية وهوامشها، مع المعتدي ضد المعتدى عليه!
لكن هذا مبرّر منطقيا، فبعض الطغاة والمعتدين والغزاة أولياء بعض في العادة، وعندما ينحاز ديكتاتور لجانب ديكتاتور آخر، ويصطف معه في ما يقوم به من عدوان على سبيل المثال، إنما هو انحياز ذاتي، فالمنحاز في هذه الحالة ينحاز لذاته الديكتاتورية أولاً، ولشكله في طريقة إدارته والتعامل مع الشعب الذي يحكمه ثانياً.
وبالتالي، هو يتوقع أن سياسة نموذجه المفضل هي السياسة الصحيحة إن لم تكن المثالية، وهو سيُقدم على الفعل ذاته لو أتيحت له الفرصة، فيعتدي على جيرانه، ويغزوهم ويحتل بلادهم كما فعل نموذجه الشبيه أو مثله الأعلى، أي أنه يصطفّ معه اليوم، ليحظى بفرصةٍ مماثلة منه غداً.
وبغض النظر عن منطقية مثل هذه السياسة المتكئة على تماثل مبدئي بين النظامين، إلا أنها سياسة مفهومة في إطارها العام، وهي متوقعة من الجميع تقريبا، إلا في حالاتٍ تحكمها التنافسية القائمة على التساوي في القوى العامة بين تلك الأنظمة الديكتاتورية مثلا.
ولكن غير المفهوم وغير المبرّر أن تُقدم الشعوب المقهورة على فعل الانحياز كما تفعل أنظمتها القاهرة. وهو ما نراه الآن متجسّدا لنا في آراء عامة وخاصة، تبديها تلك الشعوب المقهورة فرديا وجمعيا تجاه ما يحدث في الحرب بين روسيا أوكرانيا.
فهل تفعل الشعوب المقهورة ذلك لفرط خوفها المبالغ به من الديكتاتور الحاكم، والذي يغطي رقعة بلادها الجغرافية، فيفيض على ما حولها، ثم يواصل فيضانه حتى يغطّي الكرة الأرضية بأكملها؟ أم أن تلك الشعوب تفعل ذلك بحكم العادة؟
فهي اعتادت أن تتبنّى وجهة نظر نظامها الحاكم، حتى وإن لم تكن مقتنعة بها، أو لأنها لا تملك وجهة نظر أخرى غيرها، لأنها كانت دائما مضطرّة لتلقي وجهة النظر الجاهزة من نظامها الحاكم المستبد، باعتباره أمرا لا يُردّ وليس مجرد وجهة نظر قابلة للنقض؟
ولعلها تصفّق للمعتدي لمجرّد أنها تراه النموذج الأقوى في الحرب، وبالتالي يستحق أن ينسحق الجميع تحت هيمنته، لأنه المنتصر أخيرا، أو أنها تظن، صداقةً بأن تعبيرها عن رأيها ضد نظام مستبد حتى لو لم يكن نظامها سينبه نظامها إلى ما يمكن أن يكون رأيها الخفي فيه!
كل هذه الاحتمالات واردة كإجابات، وأيضا كأدلة على قبح الاستبداد، بكل ما يفضي إليه في التجربة الإنسانية.
* سعدية مفرح كاتب وصحفية وشاعرة كويتية
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: