هذه الحرب أدخلت موازين القوى العالمية ومن ثم الإقليمية في مرحلة جديدة. أي أمام نظام، أو لا نظام، عالمي جديد.
فأمريكا كما يبدو تريد إنزال هزيمة بروسيا، وصولاً إلى تلويح بمحاكمة بوتين، هذا يعني أنها تريد لهذه الحرب أن تنتهي بتلك النتيجة.
لا حق لمنصف أن يتهم من يُعارض سياسات أمريكا أنه مع روسيا لتصبح المسألة من مع روسيا، ومن مع أمريكا. إنها مسألة دولية مبدئية: “عدم تهديد الأمن القومي”
نتيجة الحرب الجارية تصعيد فتصعيد وصولاً لما وصل إليه كينيدي حين تعرّض أمنه القومي لخطر صواريخ السوفييت بكوبا وسيصبح على الغرب قبول ما يرضي روسيا كحد أدنى لإنهاء الحرب.
* * *
بقلم: منير شفيق
ما زال العالم كله مشدوداً إلى الحرب المندلعة في أوكرانيا، والكل له موقف منها في الأغلب، والجميع يسأل: إلى أين؟ وهنالك من يتخوف من وصولها إلى شفير الحرب العالمية الثالثة، إن لم تكن عملياً في الطريق إليها.
صحيح أن المشكل في أساسه روسي- أوكراني، ولكن أمريكا هي المسبّب الأساسي في تحويل هذا المشكل إلى أزمة حرب. فهي التي راحت منذ ثلاثين عاماً تجند دول حلف وارسو لتصبح أعضاء في حلف الناتو، وذلك بالرغم من تعهدها بعدم فعل ذلك لتسهيل انفراط حلف وارسو، فكان تعهداً كاذباً وماكراً..
وهي التي راحت منذ عقدين تجنيد دول الاتحاد السوفييتي السابقة، عدا الاتحاد الروسي، لحلف وارسو، وذلك بالرغم من تعهدها بعدم فعل ذلك. وهو تعهدٌ كاذب ومخادع، استهدف طمأنة روسيا لتسهيل انفراط الاتحاد السوفييتي.
ولم يكن الكذب في التعهد، هنا، لأغراض إعلامية أو سياسية، أو تحويراً لحقائق، وإنما كان تلبية لاستراتيجية تقضي بمحاصرة روسيا من كل حدودها، وتهديد أمنها القومي عسكرياً، بما لا تحتمله دولة تحترم استقلالها وسيادتها وأمنها القومي.
وهي استراتيجية عدائية مخالفة للقانون الدولي، ولحسن العلاقات بين الدول. كما تتهدّد السلم والاستقرار العالميين، وذلك بغض النظر أكان المعني روسيا، أم الصين، أم الهند، أم ألمانيا، أم اليابان؛ الأمر الذي لا يسمح لأحد، يبتغي إنصافاً، أن يقول ما دامت روسيا عدوتي أو خصمي فدع أمريكا تفعل ما فعلت وما زالت تفعل، وأنا معها، ولو داست على القانون الدولي، واشتعلت الحرب.
هذا ولا يحق لأحد، يحرص على أن يكون منصفاً، أن يتهم من يُعارض أمريكا في تلك السياسات أنه مع روسيا، لتصبح المسألة من مع روسيا، ومن مع أمريكا. إنها مسألة دولية مبدئية: “عدم تهديد الأمن القومي”.
فأوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة، وينطبق عليها القانون الدولي الذي يحميها من العدوان الخارجي، أو من التدخل في شأنها الداخلي. ولكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، فأوكرانيا في ظل نظامها الراهن الذي تشكّل عام 2014، وضعت في دستورها الانضمام إلى الناتو.
وراحت أمريكا تسلحها، وتحضرها لتصبح خنجراً في خاصرة روسيا؛ يتهدّد أمنها القومي على أعلى مستوى. وعندما تحركت روسيا بعد انقلاب 2014 لاستعادة شبه جزيرة القرم التي وهبها خروتشوف لأوكرانيا السوفييتية من أراضٍ روسية.
وكان ستالين قد أعطاها أرضاً روسية أيضاً، ولهذا لا تحتمل العلاقة بين روسيا وأوكرانيا أن تتحول أوكرانيا إلى قاعدة عسكرية معادية.
بكلمة، إذا أسقطت من الحساب سياسة حكومة أوكرانيا، ومن ورائها السياسة الأمريكية والبريطانية، بتحويل أوكرانيا إلى قاعدة عسكرية تهدّد الأمن القومي لروسيا على حدودها، وتهدّد شرقي أوكرانيا بالاجتياح، يصبح ما قام به بوتين من حربٍ على أوكرانيا غزواً سافراً من وجهة نظر القانون الدولي. ولكن ما فعله بوتين ستفعله أيّة دولة ذات قدرة، وتحترم أمنها القومي، ولا تسمح بأيّ تهديد لوجودها.
عندما قرر خروتشوف وكاسترو زرع صواريخ في كوبا، وهو من حقهما من وجهة نظر القانون الدولي وسيادة الدول، أنذر كينيدي الرئيس الأمريكي خروتشوف بأنه سيغرق أيّة سفينة تحمل جزءاً من الصواريخ التي ستزرع في كوبا، وأكد له أن إصبعه على زر إطلاق الحرب العالمية النووية.
ولهذا فإن أمريكا آخر من يحق لها الاعتراض على ما اعتبرته غزواً روسياً عسكرياً لأوكرانيا، وهي تتسلح بالصواريخ التي تهدّد الأمن القومي الروسي. لهذا لا يستطيع منصفٌ يبحث عن العدل، أن يعتبر ما يجري في أوكرانيا مجرد غزو روسي وشعب مظلوم.
على أن البعد الآخر الذي يجب أخذه في الاعتبار، وهي نتائج هذه الحرب على العالم. فهذه الحرب أدخلت موازين القوى العالمية ومن ثم الإقليمية في مرحلة جديدة. أي أمام نظام، أو لا نظام، عالمي جديد.
فأمريكا كما يبدو من تصريحاتها الرسمية وممارستها تريد إنزال هزيمة بروسيا، وصولاً إلى تلويح بمحاكمة بوتين، هذا يعني أنها تريد لهذه الحرب أن تنتهي بتلك النتيجة.
فمن جهة ذهبت بالعقوبات الاقتصادية إلى أقصى مدى تستطيعه، وراحت تعبئ الرأي العام العالمي لعزل روسيا عزلاً مطبقاً، أما من جهة أخرى فراحت تسلح الجيش الأوكراني، وترسل المتطوّعين لاستمرار الحرب على أمل استنزاف روسيا أطول مدى ممكن.
لهذا أفشلت ثلاث مفاوضات روسية أوكرانية لإنهاء الحرب وإيجاد حلٍّ مُرضٍ. فالرئيس الأوكراني يأتمر بالأوامر الأمريكية، وهو صهيوني أمريكي لا علاقة له بالشعب الأوكراني الذي انتخبه، وهو لا يعلم حقيقة من ينتخب، وإلى أين يمكن أن يذهب به هذا الرئيس.
وذلك بدليل إيصاله الصراع مع روسيا إلى حد جعل أوكرانيا قاعدة عسكرية تهدّد الأمن القومي الروسي، وتعرّض الأمن الداخلي الأوكراني إلى الحرب الأهلية، مما أدى إلى اندلاع الحرب في 24 شباط/ فبراير 2022.
ومع ذلك راح يحرّض على المقاومة والمواجهة، وهو يرى الأوكرانيين دخلوا في الكارثة، وأخذت أوكرانيا تسارع إلى الدمار والخراب. فلو كان حقاً ينتمي للشعب الأوكراني، ومصالحه العليا لما سمح لحربٍ فاشلة بالنسبة إليه أن تندلع، ولم يسمح لها أن تستمر مع أول مفاوضات.
المطلوب منه أن يقبل بحياد أوكرانيا صديقة لروسيا والغرب، وليس أوكرانيا مخلبَ قطٍّ ناتوي أمريكي صهيوني، يهدّد الأمن القومي الروسي لحساب سياسات أمريكية، لا يهمهما أن تحترق أوكرانيا مقابل إنزال هزيمة بروسيا.
لكنه لا يهمه أيضاً أن تفشل هذه السياسات، بدليل الحساب البسيط لموازين القوى، والعناد الروسي إذا ما دخل الحرب، فكيف بحربٍ يمتلك فيها زمام المبادرة، والتفوق العسكري. وتريد أمريكا له أن يُهزم فيها، ويؤخذ بوتين إلى المحكمة الدولية.
من هنا فإن نتيجة هذه الحرب الجارية الآن هي الذهاب إلى التصعيد فالتصعيد، وصولاً إلى ما وصل إليه الرئيس الأمريكي كينيدي حين تعرّض أمنه القومي لخطر الصواريخ إذا زرعت في كوبا. وعندئذ يصبح على أمريكا وأوروبا أن تقبلا بشروط بوتين، أو قل بما يرضي روسيا كحد أدنى لإنهاء الحرب.
* منير شفيق كاتب ومفكر فلسطيني، مؤلف كتاب “علم الحرب”.
المصدر| عربي 21
موضوعات تهمك: