هدف بوتين من كلّ تدخلاته استبدال النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وهو ما عبّر عنه بوضوح بمؤتمر ميونخ للأمن في 2008.
تحوّلت ألمانيا من وسيط في الصراعات إلى منخرط في الصراع الدائر، ولأول مرة ترسل أسلحة إلى دولة غير أوروبية أو غير عضو في الناتو.
شكّل التعاون العسكري والاقتصادي حجر الزاوية في بناء عالم ما بعد الحربين (فترة الحرب الباردة) ثم سقوط جدار برلين وتفكّك الاتحاد السوفييتي.
الولايات المتحدة لن تضع نفسها في صراعٍ مباشر مع روسيا ولن تخاطر بدخول حربٍ أكبر تمتد لما بعد أوكرانيا وعلى الأوربيين الاعتماد على أنفسهم.
خصّصت ألمانيا مئة مليون يورو هذا العام لتعزيز دفاعها و2% من الناتج المحلي أي 40 مليار يورو سنويا، رقم ضخم سيكون ثاني أكبر إنفاق عسكري عالميا.
واقع دولي جديد وحرب باردة انتقل مركزها من برلين إلى كييف طارحاً معه أسئلة عديدة: ما هو المستقبل وما شكل تلك التحالفات والخرائط قيد التشكل؟
* * *
بقلم: تقادم الخطيب
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انطلقت الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، وكان مركز الحدث برلين بشطريها.
ففي حين كان المعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفييتي، يسيطر على برلين الشرقية، بالتوازي مع عمليات قمع ممنهجة مارستها الأيديولوجيا الشيوعية ضد مواطني دول تنتمي لمعسكرها، عمل المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، على تعزيز الديمقراطية والرفاهية لمواطنيه.
وهنا بدأت ما تسمى صناعة أوروبا الغربية أو العالم الغربي وعالم الرفاهية. على أنّ مصدر دولة الرفاه الأوروبية يعود إلى الصراع الأيديولوجي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وقد بلغ هذا الصراع مداه في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، حينما احتدم بين الاتحاد السوفييتي وأوروبا الغربية، وهو ما سمح للولايات المتحدة بتعزيز وجودها وفرض هيمنتها.
وقد حاولت الولايات المتحدة أن تقوم بذلك من خلال أمرين أساسيين: التعاونين الاقتصادي والعسكري.
حدث تعزيز التعاون الاقتصادي من خلال خطة مارشال، والتي هدفت الولايات المتحدة منها إلى نشر النمط الاقتصادي الأميركي داخل الاقتصاد الأوروبي.
وفي الجانب العسكري كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) الوسيلة التي حاولت من خلاله الولايات المتحدة زيادة التعاون بينها وبين أوروبا الغربية، ليصبح الحلف، مع الوقت، أحد أهم التحالفات العسكرية في العالم.
وقد هدفت الولايات المتحدة في ذلك إلى زيادة مبيعاتها العسكرية لأعضائه، ولكن أيضا لمواجهة خطر المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي.
وبقيت نقطة مهمة كانت محلّ نقاشات داخل الحلف: كيفية التعامل مع ألمانيا، إذ كان هناك خوفٌ من أن تحصل ألمانيا الغربية حينها على قوة نووية، تهدّد من خلالها الدول المجاورة.
لذا كانت مسألة انضمام ألمانيا داخل الحلف أمراً حيوياً ومهما لضمان مراقبتها، وقد حدث هذا عام 1954، كما أنه حينما انهار السوفييت، جرى تفكيك حلف وارسو، والإبقاء علي حلف الناتو. وأحد أهم الأسباب هو الخشية من أن تحصل ألمانيا الموحدة، بعد دمج جيشيها، على الأسلحة النووية وتهدّد الدول المجاورة.
شكّل التعاون العسكري والاقتصادي حجر الزاوية في بناء عالم ما بعد الحربين (فترة الحرب الباردة) ثم سقوط جدار برلين وتفكّك الاتحاد السوفييتي.
حينها، أصبح العالم أحادي القطب تتحكّم فيه دولة واحدة، الولايات المتحدة. واستقر هذا الأمر على حاله حتى فترة قريبة. مع تراجع دور الولايات المتحدة وصعود قوى أخرى وعودة روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين إلي المسرح الدولي، من خلال تدخلاته العسكرية.
فبدأ باتهام جورجيا زوراً بالعدوان “لتبرير” غزوه في أغسطس/ آب 2008 ذلك البلد، ثم دعم انفصاليي دونباس الأوكرانيين، الذين ساعد في تكوينهم، ثم ضم منطقة شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، وتدخله الدموي لصالح نظام الأسد في سورية، ثم دعمه المرتزقة، مثل مجموعة “فاغنر” في ليبيا، واستخدام الفيتو لدعم الديكتاتوريات حول العالم، والاستحواذ على الذهب كما حدث في الحالة السودانية.
كما عمل بقوة على تآكل الديمقراطيات الغربية، محاولاً إيجاد فجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، في محاولةٍ لإضعاف “الناتو” وإعادة بناء روسيا العسكرية وشحذها في مجالات عملياتية عديدة، وشنّ الهجمات الإلكترونية.
كان هدف بوتين من كلّ ذلك استبدال النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما عبّر عنه بوضوح في مؤتمر ميونخ للأمن في 2008.
هذا كله لم يقابله أيّ رد فعل من الأوروبيين والأميركان، مع تراجع دور أميركا علي الساحة الدولية، خصوصاً مع وصول ترامب إلى السلطة. وقد ساهم ذلك كله في تعزيز دور بوتين وتدخلاته. وفي المقابل، قلص من قدرة حلفاء الأميركان، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي و”الناتو”.
وقد ساعد ترامب في ذلك كثيراً، حينما احتقر الحلف، وقرّر أنّه سيسحب القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا، ما حدا برؤساء دول غربية أن ينادوا بامتلاك مصائرهم في أيديهم، ومن بينهم المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل.
وفي الوقت نفسه، حينما اقترح الرئيس الفرنسي، ماكرون، تكوين ما تسمى القوة الأوروبية، اعترضت ألمانيا علي ذلك، اتباعاً سياسة الحياد وعدم التدخل في أي نزاع.
لكن ما حدث، في الأيام القليلة الماضية، غير كل الخرائط والمواقف. فألمانيا التي اتسمت سياستها بالحياد علي الطريقة السويسرية، وحلّ النزاع بالحوار ولعب دور الوسيط في الأزمات الدولية قد تغير موقفها، أو بالأحرى تلك السياسة المنتهجة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تحوّلت ألمانيا من وسيط في الصراعات إلى منخرط في الصراع الدائر، ولأول مرة ترسل أسلحة إلى دولة غير أوروبية أو عضو في حلف الناتو، كما أنّ الإنفاق العسكري وتقوية الجيش الذي جرى تقليصه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يعد الآن له مكان على المسرح السياسي الألماني!
ففي خطوة كبرى وغير متوقعة، خصّصت مائة مليون يورو هذا العام لإعادة بناء جيشها وتعزيز قواتها الدفاعية، إلى جانب 2% من الناتج المحلي سنوياً، أي ما يعادل 40 مليار يورو سنوياً، وهو رقم ضخم، قد يجعلها تحتل المركز الثاني عالمياً في عملية الإنفاق العسكري.
وفي حد ذاته، يحمل هذا الأمر، في طياته، الكثير، ودليل على التغيير الكبير والصدمة التي انتابت الأوروبيين، عندما قرّر بوتين غزو أوكرانيا، فالأوروبيون كانوا يعتقدون ولعقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبناء دولة الرفاه أنّ الاستقرار الذي يقدّمه عالمٌ متداخلٌ سيحول دون اندلاع الحرب، وأنّ أميركا ستجد الحل لو حدث الأسوأ.
لكن ما حدث الآن غيّر هذا المفهوم إلى الأبد، فالولايات المتحدة لن تضع نفسها في صراعٍ مباشر مع روسيا، ولن تخاطر بالدخول في حربٍ أكبر تمتد إلى ما بعد أوكرانيا. وبالتالي، على الأوروبيين أن يعتمدوا على أنفسهم.
تغيرت خرائط ما بعد الحرب العالمية الثانية الآن، وأصبح هناك واقع جديد يفرض نفسه على المسرح العالمي، أو بالأحرى حرب باردة انتقل مركزها من برلين إلى كييف، طارحاً معه أسئلة عديدة، منها: ما هو المستقبل وما هو شكل تلك التحالفات وتلك الخرائط التي ستتشكل؟ لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالإجابة في مشهد دولي جديد يتسم بالسيولة والانسيابية.
* د. تقادم الخطيب كاتب وأكاديمي مصري
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: