غزة بين خيارات أحلاها مرّ حيث تقع بين عقوبات السلطة والتصعيد مع إسرائيل بالإضافة لأوضاع القطاع الصعبة..
بقلم: هاني المصري
تأكدنا من صحة ما قاله لنا قيادي في أحد التنظيمات المعترضة على التهدئة المنفردة حول أن شعبنا في قطاع غزة لا يقبل ولا يفهم أي حديث رافض لدخول الوقود القطري، وذلك عندما لمسنا أن الجميع، حتى بمن فيهم المنتمون والمحسوبون على حركة فتح لا يستطيعون إلا أن يكونوا مع، أو على الأقل، يجارون التيار الجارف في غزة، المرحب بهذه الخطوة، على أمل أن تأتي بالفرج الذي طال انتظاره.
ومن لا يقبل أو يتفهم ذلك، عليه أن يذهب إلى غزة، ويعاني ولو قليلًا مما يعانيه أهلها، و جعل حياتهم أقرب إلى الجحيم، وخصوصًا منذ نيسان الماضي وحتى الآن.
من يعترض على دخول الوقود من دون موافقة السلطة الفلسطينية، وبموافقة أميركية ودولية وإسرائيلية وعربية، عليه أن يقدم حلًا أكثر من القول بأن المصالحة أولًا والتهدئة ثانيًا، وأكثر من المطالبة بتطبيق اتفاق “تمكين الحكومة”، لسبب بسيط، هو أن المصالحة تواجه استعصاء عميقًا، وأن اتفاق 2017 تجاوزته الأحداث، ولو طبق سيقود إلى حرب أهلية عاجلًا أم آجلًا، لأنه لا يعالج أسباب الانقسام وجذوره، لذلك لحق سابقيه من “اتفاق مكة”، مرورًا بـ”إعلان الدوحة”، وانتهاء بـ”إعلان الشاطئ”.
من يريد الوحدة حقًا عليه أن يطرح مقاربة جديدة مختلفة عمّا طُرح وجُرب حتى الآن، وعليه أيضًا أن يعمل على إنجاحها ولا يكتفي بطرحها، وتقديم براهين تثبت أن لديها فرصة للنجاح.
على الرغم مما سبق ومن دون أي تناقض معه، فإن دخول الوقود القطري من دون موافقة السلطة يكرّس الانقسام، ويسرّع في سيره للتحول إلى انفصال، كونه يرسخ وجود سلطتين وعنوانين للفلسطينيين، ويساعد على نجاح المخطط الأميركي الإسرائيلي بفصل الضفة عن القطاع.
السؤال الأهم هو: لماذا وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل، وكيف نخرج منه، وليس الغرق في الفروع والنتائج التي جاءت تحصيلًا حاصلًا؟
هنا اسمحوا لي القول بمنتهى الصراحة، إن من ينسق أمنيًا مع الاحتلال واعترف بحق إسرائيل في الوجود وبقية التزامات أوسلو، لا يستطيع أن يزايد على من ارتضى العمل ضمن سقف أوسلو، على أمل التخلص منه، ويبحث عن تهدئة يمكن أن تتحول إلى هدنة طويلة، مقابل الحفاظ على سلطته في قطاع غزة، بصورة تتناقض مع ما كان يبشر به من الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. ولكن هذا الموقف ضرره أقل ما دام يرفض الاعتراف بإسرائيل وتسليم سلاح المقاومة وإدانتها، ومحتفظًا بأهدافه وخيار المقاومة.
ليس البديل عن الوحدة ولا عن مصر ممرًا مائيًا إلى قبرص تحت رحمة إسرائيل وأميركا، ولا تخفيف الحصار أو إعادة تنظيمه. كما ليس البديل عن تمويل السلطة اقتطاع إسرائيل لأموال المقاصة وتحويلها للقطاع عبر هيئات دولية أو إقليمية تضعف التمثيل الفلسطيني للفلسطينيين. فإذا كانت عقوبات السلطة في قطاع غزة جريمة لا تغتفر، فإن الرد عليها بالتمسك بالسلطة في القطاع وباللجوء إلى الأعداء ليس جريمة فيها نظر.
هذا الواقع يطرح ضرورة بلورة رؤية شاملة جديدة قادرة على تجاوز المأزق الشامل الذي يعاني منه طرفا الانقسام، اللذان جرا بأذيالهما الجميع. رؤية ترى أن “الانقلاب” الذي نفذته “حماس” على السلطة نفّذ من جزء من السلطة، حاصل على الأغلبية في المجلس التشريعي، ولم يمكّن من الحكم رغم تشكيله للحكومة العاشرة، ومشاركته في حكومة الوحدة الوطنية. وهذا “الانقلاب” جريمة لها ظروفها الخاصة المخففة، خصوصًا أن ما قام به “تغدى بخصمه قبل أن يتعشى به”.
لذا، فإن التعامل مع “انقلاب” “حماس” على خطورته لا بد أن يكون مختلفًا مع الانقلاب العادي، إذ لا ينفع القول تمكين الحكومة أولًا وسلطة واحدة وسلاح واحد من دون الاتفاق على حل الرزمة الشاملة الكفيل بمعالجة مختلف أسباب الانقسام وجذوره، وضمن هذه الرزمة تتحقق شعارات سلطة واحدة وسلاح واحد، وتوضع المقاومة المسلحة في مكانها الطبيعي بوصفها ليست صنمًا نعبده، ولا شرًا مستطيرًا نسعى للتخلص منه، وإنما أداة في خدمة الإستراتيجية الواحدة والقيادة الموحدة.
لقد حاولت مصر طوال الشهور الماضية إنجاح الوحدة أولًا، والتقت مع مقاربة الرئيس جوهريًا، باستثناء رفضها فرض الإجراءات العقابية على القطاع والتهديد بفرض المزيد منها. وحاولت قطر أن يتم دخول الوقود عن طريق السلطة استمرارًا لجهودها لحماية رأسها عن طريق كسب الرضا الأميركي الإسرائيلي، ولو حدث ذلك ووافقت السلطة لسجلت نقطة لصالحها، بما كان يوفر ظروفًا أفضل لإنجاح الجهود المصرية، ولكنها رفضت لإصرارها إلى حد العناد الكافر على تمكين الحكومة أولًا، أي استسلام حركة حماس من دون قيد أو شرط، مع أن من يريد استسلامها عليه هزيمتها أولًا.
نعم، “حماس” في مأزق شامل، وهي لن تُقبل كبديل عن السلطة أو تُسحب من قائمة “الإرهاب” من دون تغيير شامل، ولكنها تمتلك العديد من أوراق القوة، التي تمكنها من البقاء والصمود، ما يجعل التعلق بأذيال رهان متجدد على اندلاع ثورة شعبية ضدها رهان خاسر، سبق أن جرّب مرارًا منذ “الانقلاب” وحتى الآن وفشل.
المصدر: مسارات