الديمقراطية أو التقدم: الإشكالات الجديدة

محمود زين الدين5 مارس 2022آخر تحديث :
الديمقراطية

هل تحتاج المجتمعات العربية للتقدم بمفهومه التاريخي والاجتماعي أم إلى الديمقراطية كنظام للحكم والشرعية؟

آلية الانتخاب والتمثيل تعبر عن مراكز النفوذ والهيمنة وصراعات القوى الاجتماعية والسياسية في زمنية سياسية محدودة.

الديمقراطية لا يمكن إلا أن تكون مباشرة ومستمرة، وبالتالي فكل محاولة لترجمتها بوسائط مؤسسية تقضي عليها كلياً بتقليصها في طقوس تمثيلية فارغة.

سؤال الشرعية السياسية من حيث علاقة الإرادة العامة بالمسارات الانتخابية وسؤال الانزياح ما بين نظام الحكم السياسي القائم وديناميكية الاحتجاج الاجتماعي.

مطلوب دمج المواطن في صلب الدينامية التداولية العمومية المحصورة بالأجهزة النيابية واستيعاب الحركة الاحتجاجية المدنية في قلب النظم المؤسسية للدولة.

* * *

بقلم: السيد ولد أباه

في كتابه الأخير «ست أطروحات من أجل ديمقراطية مستمرة»، يعالج عالم القانون الفرنسي «دومنيك روسو» الإشكالات المطروحة بخصوص أزمة الديمقراطية التمثيلية في البلدان الغربية، التي وصلت في أيامنا هذه إلى مأزق حقيقي.
ليس النقاش في حد ذاته بالجديد، وقد طرح منذ بدايات الفكر الليبرالي في اتجاهين كبيرين هما: سؤال الشرعية السياسية من حيث العلاقة ما بين الإرادة العامة والمسارات الانتخابية، وسؤال الانزياح ما بين نظام الحكم السياسي القائم وديناميكية الاحتجاج الاجتماعي من حيث القدرة على استيعابها في آليات التمثيل والتداول العمومي.
ومن المعروف أن فلاسفة الديمقراطية الراديكالية منذ جان جاك روسو رفضوا فكرة التماهي بين النظم التمثيلية والإرادة العمومية الحرة، واعتبروا أن آلية الانتخاب والتمثيل تعبر عن مراكز النفوذ والهيمنة وصراعات القوى الاجتماعية والسياسية في زمنية سياسية محدودة، لكنها لا يمكن أن تحسم موضوع الشرعية السياسية القائمة على التجسيد التام للهوية الجماعية المشتركة (أي الأمة بمفهومها العضوي).
لقد اعتبر فلاسفة التنوير الأوروبي أن الديمقراطية لا يمكن إلا أن تكون مباشرة ومستمرة، وبالتالي فإن كل محاولة لترجمتها في وسائط مؤسسية تقضي عليها كلياً بتقليصها في طقوس تمثيلية فارغة.
ومن هنا فإن حركة التنوير الأوروبي، على عكس الصورة السائدة، لم تكن ليبرالية وإنما تبنت أطروحةَ النقد الفكري والمجتمعي العميق للنظم القائمة، من منطلق كون النسق الليبرالي لا يتجاوز تنظيم الحريات الاقتصادية والقانونية، بينما المطلوب هو تغيير الثقافة السائدة ومواجهة السلط المعرفية والمجتمعية التي تتحكم في إرادة الجمهور ووعي الفرد.
ومن هنا يمكن إبراز التعارض بين ثلاث توجهات متمايزة: التوجه التنويري في نقديته التفكيكية الجذرية، والتوجه الديمقراطي في تصوره للجسم السياسي كتعبير عن الروح الجماعية للأمة، والتوجه الليبرالي في مقاربته القانونية المؤسسية لتنظيم الحريات الفردية داخل مجتمع تعددي.
في العالم الغربي، وقعت تسويات توفيقية بين هذه التوجهات الثلاث، بعد نجاح حركة التنوير في تغيير الحالة الثقافية والمجتمعية السائدة في أوروبا، وبعد توسيع منظور المشاركة السياسية وتأمين الحياد المؤسسي للسلطة العمومية، وبعد نقل المثال الليبرالي من مجرد التنظيم السلبي للحريات الفردية إلى إدماج مقاييس العدالة التوزيعية في قلب المنظومة الليبرالية نفسها.
ورغم هذه التسويات التأليفية، ظلت الإشكالات الأصلية قائمة، تبرز في طبيعة المشاريع السياسية المتصارعة في الحقل الانتخابي.
وما نشهده اليوم هو ظهور مؤشرات متزايدة على انحسار وتراجع فاعلية تلك الصيغ التوفيقية التي ضمنت الاستقرار السياسي في الديمقراطيات الغربية لما يزيد على قرن كامل. إن الموضوع مطروح بصفة مغايرة في الديمقراطيات الناشئة التي تنتمي إليها الأنظمة السياسية في العديد من البلدان العربية.
في هذه البلدان، لم تتم بالكامل هذه الصياغات التأليفية، حيث ما يزال المشروع التنويري في انفصام حقيقي مع المطلب الديمقراطي، كما أن الانزياح قائم بداهة ما بين الآلية المسطرية الإجرائية للتمثيلية الليبرالية والمنظور المعياري القيمي للفكر الليبرالي.
ومن هنا نلمس ظواهر لافتة تحتاج للتنبيه، من بينها ضعف القاعدة السياسية والمجتمعية للقوى الحاملة لمشروع التنوير والتحديث الاجتماعي، وهشاشة التيار الليبرالي سياسياً وانتخابياً في الوقت الذي تتعزز وتتوسع سياسات التمثيل والانتخاب التي ليست في صالحه.
وفي المقترحات التي يقدمها «دومنيك روسو» لمواجهة الأزمة السياسية الحادة التي تعانيها المجتمعات الديمقراطية، دمج المواطن في صلب الديناميكية التداولية العمومية المحصورة حالياً في الأجهزة النيابية، واستيعاب الحركة الاحتجاجية المدنية في قلب النظم المؤسسية للدولة.
وقد يكون من المناسب من منظور قريب من تصور «دومنيك روسو» مراجعة مسارات البناء السياسي والدستوري في الديمقراطيات الناشئة، من أجل استيعاب قيم التنوير والتحديث الليبرالي في صلب العملية السياسية عبر إجراءات قانونية وتنظيمية ملموسة، تضمن الحفاظ على موازين التعددية الفكرية والسياسية التي هي جوهر المنظومة الديمقراطية، بدلاً من تقويضها والقضاء عليها عن طريق إجراءات التمثيل والانتخاب التي تتحكم فيها تيارات بعينها لأسباب معروفة لا تحتاج لبيان.
في ستينيات القرن الماضي كان النقاش المهيمن في الساحة الفكرية العربية هو: هل تحتاج المجتمعات العربية إلى التقدم بمفهومه التاريخي والاجتماعي أم إلى الديمقراطية كنظام للحكم والشرعية؟
ومع أن هذا النقاش حسم عملياً لصالح الديمقراطية نتيجة لظروف إقليمية ودولية معلومة للجميع، إلا أن التوتر الإشكالي الذي طبع هذا الجدل ما يزال مطروحاً ويحتاج لجهد نظري من نوع جديد.

* د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر| الاتحاد – أبوظبي

موضوعات تهمك:

الديمقراطية الانتخابية ورهانات الاعتراف

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة