لا تزال مشاعر “الإهانة” من انهيار الاتحاد السوفييتي تسيطر على تفكير بوتين.
يعزف بوتين على وتر خطر “التطهير الإثني” في الأقاليم الأوكرانية الانفصالية.
لا تبدو إشارات المتكرّرة للقصف الأميركي على بلغراد عابرة، فهو لم يتجرّع “هذه الإهانة” ويسعى للثأر منها بمنطق مواجهة التطهير العرقي، ولعب دور الضحيّة.
تبدو غزوة بوتين لأوكرانيا استراتيجيًا وجيوسياسيًا فصل آخر من صراع قديم متجذّر مع الغرب ومحاولة لحماية النطاق الجغرافي لروسيا بالمدى البعيد!
* * *
في منطق الاستراتيجيا والجغرافيا السياسية، تبدو غزوة فلاديمير بوتين الأوكرانية مجرّد فصل آخر من فصول صراع قديم متجذّر مع الغرب، ومحاولة لحماية النطاق الجغرافي لروسيا على المدى البعيد؛ لكن هذا وحده لا يبدو كافيًا لتفسير دوافع بوتين، وأحاديثه المتكرّرة عن حرب “تتعلّق بوجود الأمة الروسية”، ومجازفته بمواجهة عقوبات قد تمثّل بدورها أيضًا “تهديدًا وجوديًّا” لمعيشة الروسيين اليومية.
في هذا السياق، يقدّم المؤرخ المختصّ في تاريخ الفكر السياسي الروسي فيكتور أولتشانينوف، عبر مقال منشور في صفحات “ذا غارديان”، قراءة تتجاوز الفهم العسكري إلى التصوّرات الذاتية العميقة لبوتين، التي يفصح عنها عبر حديثه المتكرر عن محاولة الغرب “كبح تطوّر روسيا” و”خنقها في الزاوية”.
وفي مخيال بوتين، كما يقرأه الكاتب، تبدو تلك المساعي الغربية مدفوعة “بغيرة مطلقة وحسب”؛ فأوروبا، الآخذة بالانحلال، والمثقلة بأعباء مثالياتها الإنسانوية والليبرالية، باتت مقسّمة ومنهكة تحت رحمة أي ريح عابرة؛ والولايات المتحدة منغمسة في ثقافة مادية وفردانية، وسائرة نحو فقدان تفوّقها العالمي، بينما روسيا، كحليفها الصيني، آخذة في الصعود.
ويرى الكاتب أن بوتين يؤمن بنظرية قدّمها مواطنه ليف جوميلوف، وهو مؤرخ مختص بالقرن العشرين، ويُعتقد أن بوتين التقاه في سان بطرسبرغ خلال التسعينيات. يرى جوميلوف أن كل إنسان يحوز طاقة حياة خاصّة به- طاقة “كونية-بيولوجية”، أو مكنونًا عاطفيًّا يسميه “دفق الحياة العاطفي”. يدلل الكاتب على ذلك بتصريح لبوتين يعود إلى فبراير/شباط من العام الماضي، يقول فيه: “أنا أؤمن بدفق الحياة العاطفي. في الطبيعة، كما في المجتمع، ثمة تطور، ذروة وانحدار، وروسيا لم تبلغ بعد ذروتها؛ نحن في الطريق. نحن نحمل الشيفرة الجينية اللامتناهية”.
وفق هذا الفهم يفسّر الكاتب ما يجري والحرب الدارة حاليًّا في أوكرانيا، والتي لا تعدو كونها حلقة أخرى في سلسلة متّصلة؛ ففي عام 2008، عاقب بوتين جورجيا على رغبتها في ترك فلك القوة الإمبريالية القديمة؛ وفي عام 2014 ضمّ شبه جزيرة القرم وكبح انضمام أوكرانيا إلى حلف شمالي الأطلسي (ناتو) عبر بدء النزاع في دونباس. لكن هذا لا يكفي بالنسبة له -يقول الكاتب- فهو يريد المواجهة والانتصار على الغرب الذي يعتبره مسؤولًا عن سقوط الاتحاد السوفييتي وعن ضعف روسيا في التسعينيات.
يُسقط الكاتب هذا البُعد السيكولوجي أيضًا على الذرائعية الأخلاقية التي اختطّها بوتين قبل مهاجمة أوكرانيا. لقد ركّز هذا الأخير، في مجمل خطاباته، على إلباس بلاده ثوب الضحية: ضحيةِ الحيل الغربية الدائمة للجم روسيا وكبحها وتقطيع أوصالها منذ عهد الاتحاد السوفييتي- أو بالأحرى، تقييد “دفقها العاطفي اللامتناهي”. وبإلباس القضية هذه ثوبًا أخلاقيًّا، قد لا تكون ثمّة حدود لمساعي الانتقام من هذا الإذلال المتصوّر، وهنا يستشهد الكاتب بمقولات يرددها بوتين في هذا السياق، من قبيل إن “تفكير الرجل الروسي متّصل أولًا وقبل كل شيء بمبدأ أخلاقي أسمى”، وإنه بالنسبة للروس “حتى الموت جميل”.
يعمد بوتين، عطفًا على الذرائعية الأخلاقية أيضًا، إلى العزف على وتر خطر “التطهير الإثني” في الأقاليم الأوكرانية الانفصالية. من هنا، لا تبدو إشاراته المتكرّرة إلى القصف الأميركي على بلغراد عابرة، فهو لا يزال، وفق الكاتب، لم يتجرّع “هذه الإهانة”، ويسعى للثأر منها بالمنطقِ الأخلاقي ذاته- منطق مواجهة التطهير العرقي، ولعب دور الضحيّة.
لكن لماذا الآن؟ يعزو كاتب المقال الأمر إلى عاملين ظرفيين: الأول إعادة إحياء المشاعر الوطنية بعد تفاقم المشاكل الحياتية للناس مع تدهور مستويات المعيشة وارتفاع الفقر والتضخم وأزمة الرعاية الصحية، والثاني انشغال الولايات المتّحدة أكثر فأكثر بالهاجس الصيني. في ظلّ تلك الظروف أخذ بوتين يحضّر للحرب؛ نشر في يوليو/تموز من العام الماضي مقالة أعلن فيها وحدة الشعبين الروسي والأوكراني، وأن الأوكرانيين “لا ينبغي أن يتركوا تحت نير حكومة غير شرعية وصلت إلى السلطة بانقلاب”؛ ثم حشد قواته على الحدود منذ الربيع؛ كثّف الاستعدادات في الخريف، وأصدر إنذاره لحلف شمال الأطلسي وواشنطن، مدركًا أنه من المستحيل قبول مطالبه، وكلّ ما أعقب ذلك كان معدًّا سلفًا.
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: