قامت حسابات بوتين على جملة من العوامل المرتبطة بالوضعين، الدولي والأميركي خاصة.
استمرأ بوتين استخدام القوة لتحقيق أهدافه في السياسة الخارجية وتدخل في حالات عديدة دون أن يعترض طريقه أحد، أو يدفع ثمناً لذلك!
قدّر بوتين أنّ تراجع الاهتمام الأميركي بأوروبا وتوجهها للتركيز على آسيا (الصين تحديداً) يعني أنّه بات بإمكانه أن يفعل بأوروبا ما يحلو له.
بوتين صعد شجرةً عالية، حاول النزول عنها بإعلان اعترافه بانفصال إقليم دونباس عن أوكرانيا بدل غزوها فهل يترك له بايدن السلم للنزول أم يتركه عالقا هناك؟
أدّت أزمة أوكرانيا لاتحاد حلف الناتو بدل دفعه نحو التفكّك إذ نجحت واشنطن في حشد الحلفاء وراءها وأقنعت الأوروبيين بأنّ “الناتو” ضمانة أمنهم الوحيدة بمواجهة “التهديد” الروسي.
حشد بوتين على حدود أوكرانيا وقدّم ثلاثة مطالب: تقديم تعهد خطي بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو، عودة وجود الناتو العسكري بأوروبا لما كان عليه في 1997، واستبدال اتفاقية الأسلحة النووية متوسّطة المدى التي انسحبت منها واشنطن في 2018.
* * *
بقلم: مروان قبلان
بعدما تدخّل عسكرياً في جورجيا عام 2008، وسلخ عنها إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وفي أوكرانيا، عام 2014، وسلخ عنها القرم، وفي سورية عام 2015، وسلخ عنها أهلها، وفي كازاخستان مطلع عام 2022، حيث ثبت حكم حليفه، توكاييف، يبدو أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استمرأ استخدام القوة لتحقيق أهدافه في السياسة الخارجية، ففي الحالات السابقة جميعاً تدخل بوتين من دون أن يعترض طريقه أحد، أو يدفع ثمناً لذلك.
بناء عليه، وجد أنّ من الممكن فرض ترتيباتٍ أمنية جديدة في أوروبا تعيدها الى ما كانت عليه قبل توسّعات حلف الناتو الثلاثة الكبرى (1999 و2004 و2009)، فحشد على حدود أوكرانيا، وقدّم ثلاثة مطالب لـ”الناتو”:
تقديم تعهد خطي بعدم ضم أوكرانيا للحلف، عودة الوجود العسكري لـ”الناتو” في أوروبا إلى الوضع الذي كان عليه عام 1997، واستبدال اتفاقية الأسلحة النووية متوسّطة المدى التي انسحبت منها واشنطن عام 2018.
كان بوتين يدرك أنّ واشنطن لن تستجيب لكلّ مطالبه، لكنّه فوجئ برفضها لها جميعاً، ما وضعه في موقفٍ حرج:
إما التراجع وخسارة ماء الوجه، أو القيام بعمل عسكري (محدود أو شامل) يكون ثمنه عقوباتٍ اقتصادية قاسية، وربما حرب عصابات تستنزفه في أوكرانيا، كما استنزفت الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، فكيف أجرى بوتين حساباته التي أوصلته إلى هنا؟
قامت حسابات بوتين على جملة من العوامل المرتبطة بالوضعين، الدولي والأميركي، خاصة، فالرئيس بايدن بدا في وضع داخلي هشّ، بسبب الانقسامات داخل حزبه، والاستقطاب الشديد في المجتمع الأميركي، حتى أنّ بعضهم يتحدّث عن احتمالات اندلاع حرب أهلية أميركية.
يضاف إلى ذلك أنّ الرأي العام الأميركي المشغول بهمومه الاقتصادية وتداعيات وباء كورونا ليس في وارد دعم أيّ تدخل خارجي جديد. كما أنّ الطريقة الفوضوية، و”المهينة”، التي انسحبت فيها الولايات المتحدة من أفغانستان، أضفت مزيداً من الضعف عليها.
وقدّر بوتين أيضاً أنّ تراجع الاهتمام الأميركي بأوروبا وتوجهها للتركيز على آسيا (الصين تحديداً) يعني أنّه بات بإمكانه أن يفعل بأوروبا ما يحلو له. ولم يفت بوتين تباعد الشُقة بين الحلفاء على طرفي الأطلسي، خصوصاً في عهد الرئيس ترامب، وتعمّقت مع انسحاب واشنطن من أفغانستان من دون تنسيق مع الحلفاء الأوروبيين.
ترك ذلك كله انطباعاً لدى بوتين بأنّ “الناتو” يتفكّك، خصوصاً في ضوء تصريحات الرئيس الفرنسي، ماكرون التي تردّدت أصداؤها في العالم، ووصف فيها الحلف بأنّه “ميت دماغياً”.
فوق ذلك، اختار بوتين لإطلاق الأزمة فصل الشتاء، حيث تزداد حاجة أوروبا للغاز والنفط في ظلّ طلب قوي على الطاقة، مدفوعاً بخروج العالم من أزمة كورونا.
وهنا قدّر بوتين أنّ بإمكانه إرهاب الأوربيين، ومنع وحدتهم خلف واشنطن، عبر استخدام الطاقة سلاحاً، خاصة مع ألمانيا التي تعتمد أكثر من غيرها على مصادر الطاقة الروسية.
لكنّ بوتين أخطأ الحساب، فقد أدّت أزمة أوكرانيا إلى أن يتحد حلف شمال الأطلسي بدل أن تدفعه نحو مزيد من التفكّك، إذ نجحت واشنطن في حشد حلفائها وراءها، وأقنعت الأوروبيين، بمن فيهم المتشككون، بأنّ “الأطلسي” هو ضمانة أمنهم الوحيدة في مواجهة “التهديد” الروسي. وكان لافتاً أنّ الأزمة دفعت دولاً محايدة، مثل فنلندا والسويد، إلى التفكير بالانضمام إلى الحلف.
كما شجّعت واشنطن الأوروبيين على اتخاذ مواقف أكثر صلابةً نحو موسكو، عبر تعهدها بتوفير إمدادات طاقة بديلة، فتم التواصل مع قطر والنرويج والجزائر والمستهلكين الآسيويين، لتوفير إمدادات غاز لأوروبا حال انقطاع الإمداد الروسي، ما شجّع هؤلاء، بمن فيهم ألمانيا المتردّدة، على اتخاذ مواقف أكثر قوة.
فوق ذلك، يبدو أنّ الدعم الذي كان ينتظره بوتين من الصين لم يأتِ بالقوة التي توقعها، إذ أكد وزير خارجيتها في كلمته في مؤتمر ميونخ للأمن على مبدأ سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها، بما فيها أوكرانيا، ويمثل هذا المبدأ أحد ركائز السياسة الخارجية الصينية الذي ترفض تجاوزه، حتى لا يصل الدور اليها.
وهكذا، وجد بوتين نفسه وقد صعد شجرةً عالية، حاول أن ينزل عنها بإعلان اعترافه بانفصال إقليم دونباس عن أوكرانيا، بدل غزوها، فهل يترك له بايدن هذا السلم للنزول، أم يتركه عالقاً هناك في الأعلى؟
* د. مروان قبلان كاتب وأكاديمي سوري
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: