مفاجأة بوتين المزدوجة وتوقيتها سبب قدرا من الارتباك وإطاحته بترتيبات لقاء يجمعه ببايدن باغت الإدارة الأميركية.
لوح بوتين بعزمه على تصفية حساباته مع الترتيبات الأمنية الأوروبية الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
اعتراضات بوتين على توسيع حلف الناتو وانضمام أوكرانيا إليه معروفة لكن مفاجأته كانت نفيه شرعية الدولة الأوكرانية بزعم أنها أصلا جزء من روسيا الأم!
شددت إدارة بايدن مؤخرا على أنّ أي اجتياز روسي للحدود ولو بجندي واحد تعتبره واشنطن اجتياحا يؤدي لفرض عقوبات “قاسية وكاسحة” ضد روسيا فورا.
اختار بوتين إعلان استقلال دونيتسك ولوغانسك وأمر بدخول قوات روسية إليهما كـ”قوة حفظ سلام” وتعبير عن اعتراف روسيا باستقلالهما المتوقع أن يوافق عليه برلمان روسيا.
* * *
فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واشنطن، أول أمس الإثنين، بخطوته الانفصالية – العسكرية في منطقة دونباس الأوكرانية، كما بخطابه شديد اللهجة، الذي فتح فيه دفتر “مظالمه”، مع التلويح بعزمه على تصفية حساباته مع الترتيبات الأمنية الأوروبية الأميركية، في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
صحيح أنّ خياره العسكري كان متوقعاً. أكده الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الجمعة الماضي، لكن الإخراج جاء خلافاً للاعتقاد السائد، فبدلاً من الاجتياح الشامل، اختار بوتين إعلان استقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك، وأمر بدخول القوات الروسية إليهما “كقوة حفظ سلام”، وكتعبير عن اعتراف روسيا باستقلالهما المتوقع أن يوافق عليه مجلس الدوما (البرلمان الروسي). إجراء رأى فيه البعض العملية رقم 2 من اجتياح بالتقسيط، بدأ بضم شبه جزيرة القرم في 2014.
وصحيح أيضاً أنّ اعتراضات بوتين على توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) معروفة، وبالتحديد على احتمال انضمام أوكرانيا إليه، لكن مفاجأته كانت بنفيه لشرعية الدولة الأوكرانية، بزعم أنها في الأصل جزء من روسيا الأم، مع أنها كانت ذات يوم واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي.
المفاجأة المزدوجة معطوفة على التوقيت، تسببت بقدر من الارتباك. كان الاعتقاد أنّ مثل هذه الخطوات أو غيرها مؤجلة على الأقل إلى ما بعد لقاء وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، الخميس.
كما من المرجح أن تنعقد في أعقاب ذلك قمة أخرى بين الرئيسين بايدن وبوتين، سعى إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وحصل على موافقة مبدئية من الجانبين بخصوصها.
إطاحة الرئيس بوتين بهذه الترتيبات، أو هكذا يفترض، باغتت إدارة بايدن. في المدة الأخيرة، شددت على أنّ أي اجتياز روسي للحدود، ولو بجندي واحد، تعتبره واشنطن بمثابة اجتياح من شأنه وضع حزمة العقوبات “القاسية والكاسحة” ضد روسيا موضع التنفيذ الفوري.
وأوحت تصريحات المسؤولين بأن الحزمة جاهزة ومتفق عليها مع الحلفاء الأوروبيين. لكن ما حصل، أن الرئيس بايدن اكتفى حتى الآن بقرار تنفيذي يمنع الشركات الأميركية من الاستثمار والتبادل التجاري مع المنطقة الانفصالية، على أن تعلن اليوم الثلاثاء، رزمة العقوبات ضد موسكو.
وبذلك، بدا وكأنّ واشنطن لم تتعامل مع اقتطاع المنطقتين ودخول القوات الروسية إليهما كاجتياح. وقد أثار ذلك انتقادات ضمنية دبلوماسية وأمنية للإدارة، من باب أنها تريثت في تصنيف هذا التطور في خانة الاجتياح، مع أن وزارة الخارجية رأت فيه “تصعيداً من العيار الكبير”.
ربما كان ذلك نتيجة لتباين وجهات النظر حول الرد المطلوب مع بعض الأوروبيين الذين تحدث معهم الرئيس بايدن، الفرنسيين والألمان، لتوحيد الموقف، بحيث لا يبدو بوتين وكأنه نجح في تظهير الفوارق بينهم وبين واشنطن. والمعروف أنّ هذه الأخيرة كانت على خلاف حول توقيت العقوبات مع أوكرانيا، التي وصل وزير خارجيتها أمس الثلاثاء إلى واشنطن، أو ربما هناك اعتبارات تقتضي التريث، مثل مفاوضات فيينا التي يُخشى أن تعمل موسكو على عرقلتها في آخر لحظة كرد على العقوبات.
وكذلك التبصر في تداعيات معاقبة موسكو وانعكاساتها على أسعار الطاقة، وبالتالي على التضخم المؤذي لرئاسة بايدن ولحزبه في عام انتخابي، ناهيك بتعويض إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، ومصير خط “نورد ستريم 2” الذي اقترب من مرحلة تشغيله.
وما عزز أجواء المفاجأة، أنّ واشنطن بقيت إجمالاً، ولغاية الأيام الأخيرة، ترجح استبعاد لجوء بوتين في آخر المطاف إلى الخيار العسكري. وبرغم الحيرة، كان هناك شبه مراهنة على إمكانية التوصل إلى مخرج دبلوماسي من باب أن بوتين يتوسل التصعيد كخدعة ووسيلة ضغط للتسليم بشروطه.
وبحسب هذا التفسير، فإنّ سيد الكرملين يحسب خطواته بقدر ما هو بارع في تكتيكاته، وإن حال الاقتصاد الروسي لا يسمح له بالمجازفة وتحمّل أعبائها، وكلفة العزلة الدولية، كما أنه قادم على انتخابات في 2024، في ظل تنامي بدايات معارضة داخلية ضده، خصوصاً وأن الصين “الصديق” الأقرب له، ما زالت حتى الآن لم تعترف له بضم شبه جزيرة القرم.
في كلمته التي أرسلها يوم السبت الماضي إلى مؤتمر ميونخ للأمن، شدد وزير خارجية الصين على أهمية “وحدة وسلامة أراضي الدول” وسيادتها عليها. وفي تقديرات الخبراء، إنّ الصين ليس بوسعها تعويض عقوبات روسيا، ولو أنها لن تتخلّى عن المساعدة في تخفيفها.
لكن هذه الحسابات كانت في غير محلّها. بوتين على ما بدا، لديه حسابات أخرى، والتخوف أن يدفعه ذلك حتى النهايات التي لمّح إليها في خطابه الإثنين، لإعادة تركيب نظام أمني أوروبي جديد؛ لكنه حتى الآن، احتفظ بموقع الفعل، وفرض على الغرب موقع رد الفعل. هو فتح باب الدبلوماسية، وهو أغلقه.
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: