أزمة أوكرانيا الراهنة، مفتعلة كانت أم ثمرة تلاقح عدد من التطورات الدولية، كشفت عن قرب بزوغ نظام دولى جديد.
العرب أصحاب نظام إقليمي راح يتخفف تدريجيا من مسؤولياته ويتحرر من ماضيه ويقترب من نهاية أجله، وضع لا يختلف عن بقية شعوب العالم الثالث.
نظام عربي جرى تثبيت هلاكه وعدم فائدته للانتقال إلى نظام شرق أوسطي شروطه المعلنة وغير المعلنة تجعله غير مجدٍ، إن لم يكن مؤذياً لأغلبيته العربية.
الجامعة العربية والنظام الإقليمى مستهدفان وتصرفاتهما تكشف عن استسلام لظروف تصوراها قاهرة وقناعات بفقدان النظام الإقليمى والجامعة العربية صلاحيتهما.
نشأ النظام العربى كما النظام الدولى فى خضم الحرب العالمية الثانية وتبلور بعدها لكن الفكرة تطورت عبر معاناة أطراف عظمى وأطراف عربية نتيجة قراءتها لتغيرات ميزان القوة الدولية والإقليمية.
العالم صار فعلا على طريق تشكيل نظام عالمي جديد ثلاثي الأقطاب: قطب أمريكي سيبذل أقصى جهد لعدم استعادة روسيا قطبيتها أو اكتمال تنصيب الصين قطباً ثانيا فأي موقع سنختار أن نكون فيه أو نكلف به وبعدم تجاوزه؟
* * *
بقلم: جميل مطر
أقرأ بحس بارد تطورات المواقف حول أوكرانيا، وأتابع بهدوء الحملات «الدبلوإعلامية» التي تشنها كافة الأطراف. ولكنني استمع باهتمام معقول وعقل متشكك وناقد، إلى تصريحات المسؤولين الكبار في واشنطن وموسكو ولندن وباريس وبرلين وكييف، وبخاصة تلك الصادرة عن القادة الذين تواتروا إلى موسكو متتابعين في ما وصف بقافلة الغرب «الأنغلوسكسوني» المتوجهة إلى موسكو عاصمة الفضاء الأوراسي؛ رهن التشكيل.
لا أشك للحظة واحدة في صحة الرأي القائل إن الرئيس بوتين الذي سعى بجهود بالغة وتكلفة باهظة عبر سنوات ليحصل على اعتراف حكام العالم، وبوجه خاص حكام أوروبا وأمريكا، كل على حدة وكلهم معاً، باستحقاقه مكانة لروسيا تليق بقدراتها العسكرية وتاريخها الإمبراطوري.
حقق بوتين بفضل أزمة أوكرانيا والتهويل الأمريكي جانباً كبيراً من هدفه، حين وقف الرأي العام العالمي شاهداً على مواكب الحكام الغربيين تطرق أبواب الكرملين ليسمعوا ما يريد الرئيس الروسي قوله، وليسمعوه نصيبهم من رد الفعل الغربي، كما صاغته الولايات المتحدة.
حرص البعض منهم على أن يتدثروا بغطاء القوة وغرورها. تنافسوا على إطلاق أشد التهديدات في محاولة لإخفاء حقيقة أمورهم، والأوضاع في مجتمعاتهم وحال الشروخ القديمة والناشئة داخل الحلف الأطلسي، وداخل الاتحاد الأوروبي، وانحدار مكانة الدولة القائد في المعسكر الغربي.
أحد التيارات في مجتمع مفكري ومنظري العلاقات الدولية، يعتقد أن الأزمة الراهنة حول أوكرانيا (مفتعلة كانت أم ثمرة تلاقح عدد من التطورات الدولية) كشفت عن قرب بزوغ نظام دولي جديد.
يستند هؤلاء في اعتقادهم أو ظنونهم إلى شهادة التاريخ. يشهد التاريخ أن الأزمة كادت تكون شرطاً لازماً لإعلان نهاية نظام دولي وبزوغ آخر. وفي اعتقادي الشخصي أن هذا الشرط (إن صح وجوده في النظام الدولي)، فقد ينطبق أيضاً على تطور النظم الإقليمية، أو على الأقل على تطور النظام الذي نعرفه أكثر من غيره وهو النظام الإقليمي العربي.
نشأ النظام العربي، مثل النظام الدولي، في خضم أزمة حادة هي الحرب العالمية الثانية. تبلور وتجسد بعد نهايتها مباشرة، ولكن الفكرة نبتت وتطورت خلال معاناة الأطراف العظمى وبعض الأطراف العربية وتوقعاتها للمستقبل، نتيجة قراءتها للتطورات والتغيرات في ميزان القوة الدولية والإقليمية.
أضرب مثلاً واحداً، لا أظن أن سياسياً في الدول العربية لم تخطر بباله في أواسط الحرب العالمية الثانية أن نهاية الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية قد اقتربت، وبالتالي ستفرض نهاية الحرب أوضاعاً جديدة في العلاقات الإقليمية في الخارج والعلاقات في ما بين الدول العربية.
أسفرت الحرب العالمية الثانية عن اعتراف بنشأة نظام إقليمي عربي، وأسفرت نشأة النظام الدولي الجديد عن منظومة قواعد جديدة للعمل الدولي وعن القطبية الثنائية، والأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، وهياكل وممارسات أسفرت جميعها عن تجمع لدول في ما سمي «العالم الثالث»، اختارت عدم الانحياز أسلوباً ونظاماً يحميها من تجاوزات القطبية الثنائية.
لم يطل عهد عدم الانحياز الذي ارتبط تاريخياً ومنطقياً بنظام القطبين. انفرط نظام القطبين ومع انفراطه وصعود القطبية الأحادية، انفرط عقد منظومة الكتلة الثالثة، وتبعثرت الآمال والتوجهات بحثاً عن بديل ممكن لحالة وتنظيم عدم الانحياز، ولم يوجد البديل، مما أشاع صفة الفوضى في الحالة الدولية.
بالنسبة لنا، نحن العرب أصحاب نظام إقليمي راح منذ زمن يتخفف تدريجياً من أعبائه ومسؤولياته، ويتحرر من ماضيه ويقترب من نهاية أجله، وضعنا الراهن لا يختلف كثيراً عن أوضاع بقية شعوب العالم الثالث.. نختلف قليلاً. فنظامنا يجمع، أو لعلنا نزعم أنه يجمع إلى جانب إقليميته، صفة القومية الواحدة. كلاهما الآن محل إعادة نظر.
أزمة النظام العربي تبدو لي أكثر تعقيداً من أزمات الاتحاد الإفريقي و«آسيان» ومنظمة الوحدة الأمريكية، وبالتأكيد أقوى حدة من حالة الاتحاد الأوروبي. إن السؤال الذي نجتمع حوله مع غيرنا هو التالي:
إن صح أن العالم صار بالفعل على الطريق الشاق والعنيف نحو تشكيل نظام عالمي جديد ثلاثي الأقطاب؛ قطب أمريكي سيبذل أقصى الجهد والثمن للحيلولة دون استعادة روسيا مكانها كقطب، ودون اكتمال عملية تنصيب الصين قطباً ثانياً، وإحباط حلمها أن تكون القطب الأول.
إن صح هذا التوقع، فأي موقع سنختار أن نكون فيه أو نكلف به وبعدم تجاوزه؟ تبقى البدائل أمامنا محدودة:
– أولاً أن نشكل مع الآخرين كتلة رابعة، وهو الأمر المستحيل.
– ثانيا أن نلقي بأنفسنا في أحضان قطب من الثلاثة وننتمي إليه وحده دون غيره، وبيننا من يجرب بالفعل هذا البديل، وأظنه بديلاً محفوفاً بمخاطر جمة خاصة بالمرحلة الراهنة، مرحلة أزمات تشكيل النظام الدولي الجديد واختبارات القوة. أظنه أيضاً بديلاً مستحيلاً على الأمد الأطول لأسباب ثقافية وحضارية ودينية.
– ثالثا الانفصال التام والعودة إلى أفكار غير مناسبة للعصر من نوع التنمية المستقلة ورفض التبعية، بمعنى آخر تبني التجربة الصينية بمراحلها المبكرة، وهو أيضاً أمر يكاد يكون مستحيلاً في ظروف عولمة تأبى أن تنصرف.
– رابعا ممارسة أساليب جربتها بنجاح نسبي، لكن لأمد غير قصير، الإمبراطورية العثمانية وورثتها لبعض خلفائها، ومنها أسلوب اللعب على الحبلين. يكاد الأسلوب يكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، فالحبال صارت ثلاثة.
– خامسا تسريع عملية الاندماج في نظام شرق أوسطي لا نكون فيه أطرافاً منفردة ومعتمدة ومنسلخة من عروبتها وعقائدها، بينما الأطراف الأخرى في معادلة الشرق الأوسط الجديد ملتزمة، وربما بتعصب، بموروثها وخصوصيتها الثقافية.
أزعم أن هذا البديل، وتجري تجربته بالفعل، لن يكون بمنأى عن العواصف والمخاطر المؤلمة. ومع ذلك فهو البديل الأنسب إذا التزم العرب به جماعة قومية تؤمن بالتعددية العرقية والدينية في داخلها وخارجها.
هو البديل الأنسب في غياب الجامعة العربية بيتاً كريماً وأصيلاً تتوفر فيه فرص الرقي والتحضر والحماية والعمل الجماعي المستدام في كافة الميادين. لكن الجامعة كالنظام الإقليمي صارت مستهدفة وتصرفاتهما معاً تكشف عن حال استسلام لظروف تصوراها قاهرة، ولقناعات بأنهما (النظام الإقليمي والجامعة العربية) فقدا صلاحيتهما.
لا شىء مؤكد فى أوقات الأزمات. ما فات من أحداث خلال الأسابيع الماضية وما تحقق على أرض الواقع من نتائج وما استقر عليه الرأى الغالب يكفي لتغليبب أمور بعينها على اجتهادات أخرى.
نجحت أزمة أوكرانيا، وبخاصة التصعيد المتوالي والمتبادل بين أمريكا وروسيا، في تنبيه العالم إلى رغبة روسيا، ونجاحها، في استعادة مكانة لائقة في النظام الدولي الجديد؛ مكانة لا تتعارض مع موقع الصين فيه.
نجحت الأزمة أيضاً في أنها بثت دخاناً كثيفاً في سماوات الشرق الأوسط، سهّل تسريع الإجراءات المخطط لها جيداً للانتقال من نظام عربي جرى تثبيت هلاكه، وانتفاء فائدته، إلى نظام شرق أوسطي شروطه المعلنة والمعتم عليها، على حد سواء، تجعله غير مجدٍ، إن لم يكن مؤذياً لأغلبيته العربية.
* جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر| الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: