«كان من الأحسن استمالة روسيا لصف الغرب بدل تركها في يد الصين أو تطبق سياسة انتقامية من الغرب».
يشترك الغرب مع روسيا في الدين المسيحي لاسيما وأن إدارة بوتين الحالية متدينة وهذا قد يسهل الحوار رغم اختلاف المذاهب.
تحول روسيا إلى دولة غربية أو مقربة كثيرا من الغرب سيجعلها أول ذراع لمحاصرة النفوذ الصيني في القارة الآسيوية ومنع تمدده نحو أوروبا.
أمام تقدم الصين التي تشكل خطرا حقيقيا على زعامة واشنطن للعالم، ينادي مفكرون استراتيجيون بضرورة العمل على جذب روسيا إلى صف الغرب.
إحداث شرخ بين الصين وروسيا سيجعل بكين وحيدة في مجلس الأمن مستقبلا، خلال التعاطي مع الملفات الشائكة، أو رسم الخرائط الجيوسياسية للعالم مستقبلا.
تساعد روسيا الصين على تطوير احتياجاتها العسكرية وتمدها بأسلحة رئيسية وإذا نجحت خطة استمالة روسيا للغرب ستتأخر الصين كثيرا في اكتساب القوة العسكرية.
* * *
بقلم: حسين مجدوبي
شكلت روسيا تحديا للغرب منذ أكثر من قرنين، واختلف السياسيون في أوروبا ولاحقا الولايات المتحدة في طريقة التعامل معها، وتفاقم هذا التحدي مع تحول البلاد إلى دولة شيوعية مع الاتحاد السوفييتي، غير أن بعض المفكرين الاستراتيجيين وأمام ما يسمى «الخطر الصيني» شددوا على ضرورة ضم روسيا إلى الغرب، وكان هذا من ضمن مخططات إدارة دونالد ترامب لكن كان مآلها الفشل.
وعمل عدد من المفكرين في العلاقات الدولية والحربية في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على أجندة واضحة مفادها اعتبار الاتحاد السوفييتي ولاحقا روسيا مصدر الخطر على الأمن القومي الأمريكي. واعتمدوا في البدء على تبني موسكو الفكر الشيوعي ونشره في العالم بديلا للرأسمالية.
ولاحقا، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي اعتبروا قرار روسيا، خاصة مع الرئيس فلاديمير بوتين، السعي نحو استعادة أمجاد الماضي خطرا على واشنطن والغرب، لاسيما عندما بدأ هذا الغرب توسيع منظمة شمال الحلف الأطلسي نحو الحدود الروسية.
ووجدوا في موقف روسيا المعارض لواشنطن في عدد من الملفات الشائكة دوليا مثل حرب العراق وسوريا وإيران، الحجة والدليل لدعم هذه السياسة، والآن تصل إلى مرحلة المنعطف الخطير مع الأزمة الأوكرانية، التي تهدد جلّ دول أوروبا الشرقية وليس فقط هذا البلد.
غير أنه منذ سنوات بدأ يتبلور فكر بديل لهذه الأطروحة القديمة، ذلك أنه أمام تقدم الصين التي تشكل الخطر الحقيقي على زعامة واشنطن للعالم، ينادي مفكرون استراتيجيون بضرورة العمل على جذب روسيا إلى الصف الغربي، بدل من تركها تسقط في يد الصين.
لأن بكين تمتلك القوة الاقتصادية القادرة على حل مشاكل روسيا، وتفويت تكنولوجيا الصناعة غير العسكرية لتطوير البلاد.
ولم يكتب النجاح لهذه الأطروحة البديلة لعاملين، هما استمرار الغلبة في الدولة العميقة «الإستبلشمنت» في التشبث بالرؤية القديمة لروسيا، وإحباط أي محاولة لتغيير هذه السياسة، ثم عدم اجتهاد مراكز التفكير في إنتاج أفكار وأطروحات جريئة في هذا الصدد، بسبب ارتباط غالبية هذه المراكز بمراكز النفوذ التي يمثلها الإستبلشمنت التقليدي أو الكلاسيكي.
وكانت انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2016 ذروة هذه المواجهة، بين المرشحة هيلاري كلينتون التي كانت تنادي بالتشدد مع روسيا وتعتبرها وريثة الاتحاد السوفييتي، مقابل مناداة ترامب بالليونة وترجيح الحوار الاستراتيجي، واعتبار روسيا دولة جديدة قد تميل إلى الغرب أكثر من المواجهة.
ولم يقتصر هذا التفكير فقط على روسيا، بل امتد إلى دول غربية ومنها ألمانيا وفرنسا، بما في ذلك بريطانيا التي تجمعها علاقات متوترة تاريخيا مع روسيا.
وقال في هذا الصدد جون ساويسر المدير السابق للاستخبارات الخارجية البريطانية MI6 في حوار مع «بي بي سي» سنة 2016 «الغرب لم يبذل مجهودا كافيا لإرساء علاقات استراتيجية مع روسيا خلال السنوات الأخيرة».
وكان يعني غلبة الحوار وتليين المواقف بدل المواجهة. وتعد إدارة دونالد ترامب الوحيدة حتى الآن التي حاولت إحداث تغيير في العلاقات مع روسيا وتغيير الرؤية الجيوسياسية نحو هذا البلد. فقد حاول ترامب ومساعدوه تطبيق برنامج يتكون من ثلاث نقاط رئيسية وهي:
– الحد من النفوذ الصيني في العالم للحفاظ على زعامة الولايات المتحدة لهذا العالم.
– التقرب من روسيا وإبعادها عن النفوذ الصيني،
– ثم الحد من الهجرة المكسيكية، التي تشكل خطرا على وحدة الشعب الأمريكي.
وعليه، كانت هذه الأطروحة محورية في برنامج ترامب ومساعديه، الأمر الذي يفسر تقارب ترامب مع بوتين في عدد من المناسبات وتجنب اتخاذ إجراءات عقابية ضد سياسة روسيا في ملفات دولية.
ورغم فوضوية ترامب وشعبويته، فهو شكل في العمق محاولة بناء دولة عميقة جديدة للقطع مع الإستبلشمنت القديم شكلا ومضمونا. وكان يحظى بدعم قوي من بعض أجنحة المؤسسة العسكرية.
وكان أبرز مناصري الاقتراب من روسيا هو الجنرال مايكل فلين، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي مع ترامب، وكان مديرا للمخابرات العسكرية في السنوات الأخيرة للرئيس الديمقراطي باراك أوباما، واعتمدت هذه الأطروحة على ما يلي:
في المقام الأول، يشترك الغرب مع روسيا في الدين المسيحي، لاسيما وأن الإدارة الحالية بزعامة بوتين متدينة، وهذا قد يسهل الحوار رغم اختلاف المذاهب.
في المقام الثاني، تساعد روسيا الصين على تطوير احتياجاتها العسكرية، بل وتمدها بالأسلحة الرئيسية، وإذا نجحت خطة استمالة روسيا للغرب، فهذا سيجعل الصين تتأخر كثيرا في اكتساب القوة العسكرية.
في المقام الثالث، تحول روسيا إلى دولة غربية أو مقربة كثيرا من الغرب سيجعلها أول ذراع لمحاصرة النفوذ الصيني في القارة الآسيوية ومنع تمدده نحو أوروبا.
في المقام الرابع، إحداث شرخ بين الصين وروسيا سيجعل بكين وحيدة في مجلس الأمن مستقبلا، خلال التعاطي مع الملفات الشائكة، أو رسم الخرائط الجيوسياسية للعالم مستقبلا.
ولم تنجح سياسة ترامب لأسباب ذاتية بحكم الفوضى التي كان يحدثها، ثم موضوعية للضغوطات التي تعرض لها، ومنها اتهامه بأنه يجعل الولايات المتحدة في موقف ضعيف أمام روسيا، إلى مستوى التشكيك في فرضية خدمته لأجندة روسية.
في الوقت ذاته، تعرض الجنرال مايكل فلين، رائد أطروحة التقارب مع روسيا للتحقيق بشبهه أنه عميل يعمل لصالح المخابرات الروسية، واضطر إلى تقديم الاستقالة سنة 2017 بسبب علاقاته مع روسيا والتحقيق القضائي الذي خضع له بسبب لقائه مع بوتين سنة 2015 ومسؤولين روس آخرين، وبالتالي تراجعت أطروحة التقارب مع روسيا.
وكانت هذه أول مرة يتعرض فيها مستشار للأمن القومي الأمريكي إلى شبهات العمالة لجهة أجنبية، بينما كان الواقع هو محاولة تغيير دفة السياسة الخارجية الأمريكية بالتقرب من روسيا وجذبها لمواجهة الصين مستقبلا.
ورغم الانتقادات التي كان يوجهها سياسيون وإعلاميون لإدارة دونالد ترامب، يعترفون بأنه كان ناجحا في مواجهة الصين بسبب العقوبات التي فرضها على هذا البلد.
ومن أبرز التصريحات في هذا الشأن ما صدر عن صحافي «نيويورك تايمز» توماس فريدمان في حوار مع الجزيرة مؤخرا أن «ترامب لم يكن رئيسا صالحا للأمريكيين ولكنه كان أحسن رئيس لمواجهة الصين». وهذا ما جعل الرئيس جو بايدن يستمر في تطبيق سياسة ترامب تجاه بكين.
ومع التحدي الذي بدأت تشكله روسيا من خلال فرض سياسة فرض الأمر الواقع عسكريا على الحلف الأطلسي في شرق أوروبا، كما يحدث حاليا في أوكرانيا، وقد يتطور نحو رومانيا وبلغاريا وبولونيا.
ثم تحالفها الوثيق مع الصين، وهو تحالف سيسرع بريادة الصين للعالم، فبدأت الأصوات بشكل محتشم تردد بمراكز صنع القرار في الولايات المتحدة أنه «كان من الأحسن استمالة روسيا لصف الغرب بدل تركها في يد الصين أو تطبق سياسة انتقامية من الغرب».
* د. حسين مجدوبي كاتب صحفي مغربي
المصدر| القدس العربي
موضوعات تهمك: