الإعلان الروسي – الصيني يعني أنّ العالم قد دخل في مرحلة جديدة.
البيان وحّد الموقفَين الصيني والروسي من القضايا الإقليمية التي تخصّ كلّ دولة منهما.
ما الدافع الرئيس لروسيا والصين للارتفاع بعلاقتهما إلى المستوى الذي عبّر عنه بيان القمة الثنائية وإحداث انقلاب غير متوقّع في الصراع الدولي والعلاقات الدولية؟
العالم يتّجه لتصعيد أشدّ للمواجهات والأزمات وسباق التسلّح وحشد القوى العسكرية وتوسيع «الناتو» كما الردّ على سياسات تعتمد ممارسة الحصار والعقوبات القصوى.
البيان يكاد يعلن عن قيام «وحدة بين البلدين» إذ اعتبر أن علاقاتهما تتعدّى التحالف السياسي والعسكري التقليدي الذي عرفته مرحلة الحرب الباردة و أنّ ما يقوم بينهما «أسمى» من ذلك… إلى علاقة صداقة «بلا حدود».
* * *
بقلم: منير شفيق
تجاهلت أغلب التعليقات الصحافية والسياسية، على البيان المشترك الصادر عن قمّة فلاديمير بوتين – شي جين بنغ في 4 شباط 2022، قراءة نصّه الطويل جدّاً والمتعدّد المواضيع والتأمّل في أبعاده، لتُركّز على ما تمّ من اتفاقات اقتصادية في قطاعَي النفط والغاز بلغت قيمتها 117.50 مليار دولار، مع وعد بزيادة صادرات أقصى الشرق الروسي.
وفي المقابل، ركّز آخرون على أبعاد سياسية تتناول قضايا ملتهبة مثل الردّ على تحالف «أوكوس»، وتسعير سباق التسلّح، أو السياسات الأميركية – الأوروبية في أوكرانيا، أو الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ونشر الصواريخ متوسّطة وقصيرة المدى في أوروبا، ومنطقة آسيا – المحيط الهادئ، وما شابه من مواضيع.
وبهذا، يبدو البيان المشترك عادياً ومألوفاً، ولا جديد فيه يستدعي الاهتمام إلّا بعض الاتفاقات الاقتصادية، والقضايا السياسية الملتهبة. لكن التدقيق في نصّه، والروح التي كُتب بها، ومجموع ما تناوله من قضايا ومواقف مشتركة، بما فيها التقدّم المشترك بمشروع لإقامة نظام عالمي متعدّد القطبية، يقوم على أساس المساواة والندّية والتعاون تحت مظلّة الأمم المتحدة.
كما تناوُل العلاقات الدولية التي يجب أن تؤسِّس لنمط جديد بمشاركة كلّ دول العالم، لإيجاد عالم أفضل وأكثر عدالة… إنّما يؤدي إلى خلاصة مختلفة، تتعدّى أن تكون فحوى قمّة ثنائية من النمط المألوف بين رئيسَي دولتين، بما في ذلك قمم ثنائية روسية – صينية سابقة.
فالبيان يكاد يعلن عن قيام «وحدة بين البلدين»؛ إذ اعتبر أن علاقاتهما تتعدّى التحالف السياسي والعسكري التقليدي الذي عرفته مرحلة الحرب الباردة، وألمح إلى أنّ ما يقوم بينهما «أسمى» من ذلك… إلى علاقة صداقة «بلا حدود».
تناوَل الإعلان كلّ القضايا تقريباً التي تخصّ الدولتَين أو العلاقات الدولية راهناً وفي المستقبل. وقد قاربها جميعاً كما لو أنّه بيان استراتيجي يَصدر عن دولة واحدة، لا عن دولتَين كبريَين، عُرِفت كلّ منهما بامتلاك استراتيجية وسياسات وأيديولوجيا ومنهج مختلف، وباستقلال صارم لا تأثير فيه لإحداهما على الأخرى.
بل يمكن لقارئه، مع افتراض صدق طرفَيه، أن يعتبره بيان وحدة، أو اتّحاد، أو بمثابة تماهي أحدهما مع الآخر، على رغم غلَبة الأسلوب الصيني في كتابة نصّه ونهجه وروحيّته، لكن من دون مساس، من قريب أو بعيد، بالشراكة الروسية في صوْغه حرفاً حرفاً وجملة جملة.
ولو اعتبرنا أنّ كلّ ما ورد فيه يعبّر بالقدْر نفسه عن موقف كلّ من طرفَيه، لكان من الممكن أن يصبح للدولتين وزير خارجية واحد، ووزير اقتصاد واحد، ووزير ثقافة واحد، بل ووزير دفاع واحد.
ومن هنا، يمكن أن يعبّر هذا البيان، إذا ما تجرّدت قراءته من شكوك الماضي والحاضر، عن حدوث «انقلاب مشترك»، تمّ، في لحظة واحدة، في استراتيجية كلّ من روسيا والصين وتكتيكهما، وعن تغيير عميق في ميزان القوى العالمي، ليس من الناحية العسكرية (ولها الأولوية بالطبع) فحسب، وإنّما أيضاً من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
وإذا تُرجم هذا التماهي في الموقف لتُرى نتائجه على الصراع الذي تخوضه روسيا في أوكرانيا، فستكون الصين قد غيّرت من موقفها ما قبل القمّة، لتصبح إلى جانب روسيا مباشرة في الأزمة الأوكرانية بمواجهة أميركا و«الناتو».
أي في المكان الذي تصاعَد فيه الصراع ليتّخذ طابع الحشد العسكري من جانب روسيا، والتسليح الفائق من قِبَل «الناتو» لحكومة كييف، من أجل شنّ حرب أهلية داخلية تُعيد ضمّ شرق البلاد، فضلاً عن إرسال قوات أميركية وأوروبية إلى رومانيا ودول أخرى.
وكان بوتين قد أعلن، في البيان، اعتباره تايوان جزءاً لا يتجزّأ من الصين، ولا حق لها بأيّ درجة من الاستقلال، وهو تصعيد في الموقف غير مسبوق.
وبهذا، يكون البيان قد وحّد الموقفَين الصيني والروسي من القضايا الإقليمية التي تخصّ كلّ دولة منهما، الأمر الذي يترتّب عليه حدوث تغيير في قواعد الاشتباك في كلّ من أوروبا وبحر الصين.
كما أنّ الإعلان الروسي – الصيني، إذا ما أُخذ بجدّية، يعني أنّ العالم قد دخل في مرحلة جديدة، أهمّ سماتها تغيّر في التعدّدية القطبية نفسها، بعدما ارتفع البيان بالاستراتيجية الروسية – الصينية المشتركة إلى مصافّ الوحدة.
ولذا، فإن الإعلان لا يقتصر على اتفاقات اقتصادية بالغة الأهمية، خصوصاً بالنسبة إلى روسيا اقتصادياً ومالياً، وأيضاً استراتيجياً بالنسبة إلى الصين من ناحية تأمين إمداد النفط والغاز، فهو أبعد من ذلك بكثير.
وإذا صحّت القراءة أعلاه، فهو يستدعي ردّاً، على أعلى مستوى، من أميركا وحلف «الناتو» وحلف «أوكوس»؛ فميزان القوى اهتزّ في غير مصلحة الأطراف التي كانت هاجمت روسيا لتطويقها من خلال توسيع «الناتو»، ونقل الصواريخ الباليستية المتوسّطة والقريبة المدى لتهديد أمنها من بوّابة أوروبا وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، كما تهديد أمن الصين في الإطار الآسيوي – الهادي (المحيط الهادي)، ولا سيّما عبر «أوكوس» ونشر الغواصات النووية.
والسؤال أخيراً، ما العامل الرئيس الذي دفع كلّاً من روسيا والصين إلى الارتفاع بعلاقتهما إلى المستوى الذي عبّر عنه بيان القمة الثنائية، ومن ثمّ إحداث هذا الانقلاب غير المتوقّع في الصراع الدولي والعلاقات الدولية؟
يجب أن يُقرأ الجواب في مراجعة مجموع السياسات والممارسات التي انتهجتها إدارة جو بايدن في وجْه موسكو، من خلال تسليح أوكرانيا وضمّها إلى «الناتو»، وزيادة القوات الأميركية في بعض الدول الأوروبية، كما التهديد بإنزال عقوبات أميركية – أوروبية في منتهى القسوة على روسيا إذا غزت جارتها.
ومن جهة أخرى ما شكّله إنشاء حلف «أوكوس» وسلسلة خطوات أخرى في الإقليم الآسيوي – الهادي ضدّ الصين، ممّا لم يَعُد كافياً مواجهته من خلال الاستراتيجيتَين الروسية والصينية ما قبل البيان.
وبهذا، يكون العالم قد اتّجه إلى تصعيد أشدّ للمواجهات والأزمات وسباق التسلّح وحشد القوى العسكرية وتوسيع «الناتو»، كما الردّ على السياسات التي تعتمد ممارسة الحصار والعقوبات القصوى.
* منير شفيق كاتب ومفكر فلسطيني
المصدر| الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: