البيان الصيني الروسي الأخير في صلبه ودلالاته خريطة طريق صريحة وجريئة.
نشبت أزمة أوكرانيا وتبنت على الفور وظيفة المفجر المنتظر من وجهة نظر طرفين على الأقل هما روسيا وأمريكا.
أزمة أوكرانيا تحمل في ثناياها تطورات قد يتجاوز أحدها أو أكثر الشكل المعتاد في أزمات أوروبا والنزاعات بين الدول الكبرى.
تأكدت الصين أن إرادة الحرب الباردة بواشنطن طاغية ولن تفلت منها وجاء الدليل قرارا أمريكيا بعدم الاشتراك رسمياً في أنشطة الأولمبياد الشتوي.
محاولة دول بعينها فرض وصايتها على الحكم على نظم الحكم في دول أخرى ما هو إلا نوع من الهيمنة يشكل تهديداً خطيرًا للسلم العالمي والاستقرار.
تمسّ الأزمة مباشرة مستقبل تفاعلات وتوازنات النظام الدولي الراهن الذي اتخذ شكل وفعاليات قطبية أحادية منذ أطلق بوش قواته باتجاه أفغانستان والعراق.
الخياران المطروحان حالياً من جانب المعسكر الليبرالي والمعسكر الآخر الذي يعلن عنه بيان بكين لا يفسحان المجال لخيار ثالث قد يظهر ويتحقق حاضراً أو مستقبلاً.
* * *
بقلم: جميل مطر
تعودت أن أمرّ مرور الكرام على البيانات الرسمية التي عادة ما تصدر عقب أو قبيل اجتماعات رؤساء الدول وغيرهم من كبار السياسيين. أتوقع أن تتغير علاقتي بهذه البيانات، وبدقة أوفر لمست طلائع هذا التغير منذ لحظة تسرب لي خلالها الفهم بأن الأزمة الأوكرانية تحمل في بعض ثناياها تطورات قد يتجاوز واحد منها أو أكثر الشكل المعتاد في أزمات أوروبا والنزاعات بين الدول الكبرى.
لتمسّ بشكل مباشر مستقبل تفاعلات وتوازنات النظام الدولي الراهن، هذا النظام الذي اتخذ شكل وفعاليات القطبية الأحادية منذ أطلق الرئيس بوش قواته في اتجاه أفغانستان والعراق عند مطلع القرن الحالي.
عشنا بالفعل منذ ذلك الحين مرحلة هيمنة أمريكية تكاد تكون مطلقة، ازداد خلالها تعودنا على اجتماعات ومؤتمرات قمة تصدر عنها خطابات سياسية لا تشرح وفي الغالب لا تكشف أو تعبر بصدق ووضوح عن مضمون الحدث أو التطور موضوع الاجتماع.
إلى أن جاء يوم من أيام أزمة أوكرانيا وهي تتصاعد اجتمع فيه رئيسا روسيا والصين في بكين، يوم الاحتفال بتدشين أولمبياد بكين للألعاب الشتوية، وأصدرا عقب اجتماعهما بياناً حمل دلالات عن واقع غير عادي ومستقبل أوشك على البزوغ.
البيان الصيني الروسي الأخير في صلبه ودلالاته خريطة طريق صريحة وجريئة.
اجتهدت، أنا وآخرون، على امتداد السنوات الأخيرة وهي السنوات التي شهدت الصعود المتسارع للصين والعودة القوية من جانب روسيا لممارسة سباق تسلح في ظروف صعبة والانحدار المتدرج لكن الملموس لمصادر القوة الأمريكية.
اجتهدنا في جمع شواهد وأدلة تشير إلى أن الوضع القائم، أي وضع الأحادية القطبية، لم يعد مناسباً لكل الأطراف في ظروف سريعة التغير.
كنا في انتظار حدث أو تطور يقوم بدور المفجر الذي يرتب بدوره عملية الانتقال المتسارعة نحو شكل جديد للنظام الدولي.
أخذنا في الاعتبار الاختلافات الرئيسية بين الدول الثلاث الكبرى تجاه معدل الانتقال المناسب وعمقه وتوقيته والأوضاع الداخلية في كل منها ومستوى تعبئة وحشد الإمكانات اللازمة لتحقيق الانتقال أو مسايرته أو لجمه.
كنا على دراية كافية بأن الصين مثلاً لا تتعجل الانتقال وروسيا تتعجله وأمريكا ترتب لوقف الانتقال إن استطاعت إلى ذلك الهدف سبيلاً.
كنا أيضاً على ثقة معقولة بأنه قد يكون في صالح طرف على الأقل نشوب أزمة حادة كمفجر لما يمكن أن يحدث في مستقبل الأيام.
نشبت أزمة أوكرانيا، ولا مبالغة في القول إنها تبنت على الفور وظيفة المفجر المنتظر من وجهة نظر طرفين على الأقل هما روسيا والولايات المتحدة.
كنا، كمتابعين ومحللين، أمام معضلة تواجهنا في العادة كلما حاولنا التثبت من جودة تحليلاتنا وخلاصات ما توصلنا إليه بالملاحظة والمقارنة والتقدير بالعودة إلى لهجة المسؤولين التحريضية ووثائقهم الرسمية.
لم يكن الأمر صعباً بالنسبة لمواقف الولايات المتحدة وآراء المسؤولين وسياساتها الفعلية على أرض الواقع وفي علاقاتها بأحلافها وأصدقائها.
لم يكن صعباً لأن أمريكا دأبت خلال وقت غير قصير سابق على الأزمة على شنّ أنواع من ممارسات تجيدها بفعل تجاربها الطويلة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي.
شنت بالفعل حملة ضد الصين بدأتها خلال عهد الرئيس دونالد ترامب وبإرادة مبيّتة من جانبه وجانب تيار قوى في الحزب الجمهوري.
لم تتوقف الحملة ضد الصين عندما وصل الديمقراطيون برئاسة جو بايدين إلى الحكم في واشنطن، استمرت ولكن نشبت في الوقت نفسه حرب باردة عنيدة ومكثفة ضد حكومة الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا.
غطت هذه الحرب على الحملة الأمريكية ضد الصين أو هكذا بدا لنا الأمر في بدايته، بينما يؤكد واقع الحال أن الصين لم تستجب للحملة التي تشنها واشنطن عليها بالحدة نفسها أو التركيز نفسه.
وإن تأكدت الصين من أن إرادة الحرب الباردة في واشنطن طاغية ولن تفلت الصين منها. جاء الدليل بالقرار الأمريكي المتطرف والقاضي بعدم الاشتراك رسمياً على أي مستوى في أنشطة الأولمبياد الشتوي.
على الجانب الروسي كانت أوكرانيا اللحظة المناسبة لموسكو لتبدأ عندها مسيرة استعادة بعض المكانة التي كانت لها عندما كانت عاصمة للقطب الثاني في نظام ثنائي القطبية، الهدف هذه المرة أن تكون روسيا قطباً في منظومة قيادة ثلاثية أو متعددة الأطراف.
عود إلى ما بدأت به وهو الأهمية التي يمكن أن يضفيها البيان السياسي الصادر عقب اجتماع الرئيسين الصيني والروسي في بكين على الجهود المبذولة لاستشراف مستقبل العلاقات الدولية.
يقول البيان في إحدى فقراته العديدة ما معناه أن الديمقراطية قيمة إنسانية عالمية وليست ميزة يتمتع بها عدد محدود من الدول، ومسؤولية تنميتها وحمايتها تقع مشتركة على عاتق المجتمع الدولي بأسره.
يقول أيضاً إن أي أمة يمكنها أن تختار الأشكال والطرق التي بواسطتها تنفذ الديمقراطية بما يتفق وحالتها وطبيعة نظامها السياسي والاجتماعي وخلفياتها التاريخية وتقاليدها وخصوصياتها الثقافية.
يستطرد البيان قائلاً ما معناه إن محاولة دول بعينها فرض وصايتها على الحكم على نظم الحكم في دول أخرى ما هو إلا نوع من الهيمنة يشكل تهديداً خطيراً للسلم العالمي والاستقرار.
أتصور أن أموراً كثيرة بالغة الأهمية ستشغل بال أهل الحل والعقد في الشهور والسنوات القادمة، أزعم أن بينها هذا البيان الذي سوف يحظى باهتمام علماء العلاقات الدولية والمتخصصين والعاملين على استشراف المستقبل باعتباره أقرب شيء ممكن إلى أن يصبح وثيقة أيديولوجية تفسر أسس وطبيعة نظام دولي جارٍ تأسيسه.
أعرف أن اهتماماً مماثلاً وقع في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وكانت نتيجته ظهور أفكار ومؤسسات الحياد الإيجابي وعدم الانحياز كتيار أدى دوراً إيجابياً لصالح الأمن والسلم الدوليين.
المثير في هذا التشبيه هو أن الخيارين المطروحين حالياً سواء من جانب المعسكر الليبرالي والمعسكر الآخر الذي تعلن عنه وثيقة بكين، خياران لا يفسحان المجال لخيار ثالث ممكن أن يظهر ويتحقق حاضراً أو مستقبلاً.
* جميل مطر كاتب ومفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق.
المصدر| الشروق القاهرة
موضوعات تهمك: