أممٌ كبرى تعمل على تصفية آثار عقود، وفي حالات أخرى قرون، من هيمنة الاستعمار الغربي.
الأزمة بين روسيا والغرب حول أوكرانيا لا تتعلّق فقط بانضمامها إلى حلف الناتو، بل تتعدّاه لتطرح إشكالية إعادة هندسة الأمن الاستراتيجي في أوروبا.
تتمحور الأزمة بين الصين وأميركا حول استعادة الصين وحدتها الترابية والتصدّي لنزعة تايوان الانفصالية وخلق شروط مواتية لعودتها للوطن الأم وترسيخ هيمنتها على بحر الصين الجنوبي.
أزمة برنامج إيران النووي تتصل برغبة المحور الأميركي الإسرائيلي الغربي الحفاظ على منظومة هيمنته المتداعية على الإقليم بفعل تحوّلات موازين القوى إقليميا.
لا وجود لأوروبا كلاعب سياسي مستقل عن أميركا والهندسة الأمنية التي شهدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسعت حلف الناتو شرقاً بالتدريج وبإشراف أميركي.
* * *
بقلم: وليد شرارة
الجديد في الوضع الدولي الراهن، ليس تعدُّد الأزمات وتفاقمها فحسب، بل كذلك التفاعل المحتمل في ما بينها. وبما أنّنا أمام أزمات بين قوة دولية مهيمنة ولكن متراجعة، أي الولايات المتحدة، وقوى دولية أو إقليمية صاعدة، أي روسيا والصين وإيران، فإنّ احتمال تفاعلها هو الذي يعنينا، لما له من تداعيات مهمّة ومؤثّرة على موازين القوى في منطقتنا، والنزاعات الدائرة فيها.
فالأزمة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وبقية دول الغرب، من جهة أخرى، حول أوكرانيا لا تتعلّق فقط بانضمام هذا البلد، أو عدم انضمامه، إلى حلف الناتو، بل تتعدّاه لتطرح إشكالية إعادة هندسة الأمن الاستراتيجي في أوروبا، التي لطالما طالبت بها روسيا منذ بداية الألفية الثانية، من دون أن تلقى آذاناً صاغية في العواصم الأطلسية.
الأمر نفسه ينسحب على الأزمة بين الصين من جهة، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، من جهة أخرى، والتي تتمحور من منظور تاريخي حول سعي الأولى لاستعادة وحدتها الترابية، ليس من خلال تثبيت سيادتها على هونغ كونغ فقط، بل عبر التصدّي للنزعة الانفصالية في تايوان وخلق الشروط المؤاتية لعودتها للوطن الأم، وترسيخ سيادتها كذلك على مياهها الإقليمية في بحرها الجنوبي.
أما الأزمة الثالثة، والتي تتخذ من برنامج إيران النووي عنواناً، فهي تتصل واقعاً بمحاولات المحور الأميركي – الإسرائيلي – الغربي الحفاظ على منظومة هيمنته المتداعية في الإقليم العربي – الإسلامي، بفعل تحوّلات موازين القوى العسكرية والميدانية إقليميا.
هي مواجهات تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، ناجمة عن تغييرات عميقة ومتسارعة في موازين القوى الإجمالية الدولية والإقليمية، والتي تتأتّى أيضاً عن التطوّرات النوعية في التكنولوجيا العسكرية، وهي مرشحة للتفاقم والتفاعل في ما بينها لما لمآلاتها من مفاعيل على موقع مختلف فرقائها على الصعيدَين الدولي والإقليمي. أممٌ كبرى تعمل على تصفية آثار عقود، وفي حالات أخرى قرون، من الهيمنة الاستعمارية الغربية، وعلى انتزاع المكانة التي تستحقّها في العالم، وفرض النديّة كقاعدة للتعامل معها.
هندسة أمنية جديدة في أوروبا
أكثر ما يثير حنق الأوروبيين من الاقتراحات التي قدّمها الرئيس الروسي لحلّ الأزمة حول أوكرانيا، معاهدة بين بلاده وبين الولايات المتحدة، وأخرى بينها وبين حلف «الناتو»، هو ما اعتبروه تجاهلاً متعمّداً لهم.
فاللقاء الذي جمع بين سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، ونظيرته الأميركية ويندي شيرمان، في جنيف في 11 يناير الجاري، لمناقشة الأزمة الأوكرانية والمطالب الروسية، تمّ من دون مشاركة الأوروبيين، رغم أنّ الأخيرة تتمحور حول الهندسة الأمنية القائمة في أوروبا.
القيادة الروسية، في الحقيقة، أدركت منذ زمن ليس بقصير بأنّ لا وجود لأوروبا كلاعب سياسي مستقل عن الولايات المتحدة، وبأنّ الهندسة الأمنية التي شيّدت فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تمثّلت بتوسيع حلف «الناتو» شرقاً بالتدريج، وعلى دفعات، بإشراف من واشنطن.
ما تريده روسيا اليوم هو إعادة النظر في هذه الهندسة، عبر تلبية «حلف الناتو» لأربعة شروط رئيسية: التزام رسمي ومكتوب من قبله بوقف توسّعه شرقاً؛ عدم بناء قواعد والتوقّف عن أية أنشطة عسكرية بجوار الأراضي الروسية؛ وقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا؛ منع نشر صواريخ متوسّطة المدى في أوروبا.
حتى الآن، قوبلت الشروط الروسية برفض أميركي وغربي، بذريعة «حقّ جميع الشعوب بتقرير مصيرها وتحالفاتها»، أي، بكلام آخر، حقّ دول شرق أوروبا بالمشاركة في استراتيجية احتواء وحصار روسيا، وتطويقها بالصواريخ والقوات العسكرية الأطلسية.
تخوض القيادة الروسية تلك المواجهة الضارية، عبر التأزيم على حدود أوكرانيا والتلويح بعملية عسكرية واسعة داخل أراضيها، وتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الصين، التي انتقلت، بحسب السفير الفرنسي الأسبق، ميشيل دوكلو، والخبير في شؤون آسيا، فرنسوا غودمان، في مقال مشترك في «لوموند» بعنوان «أوكرانيا أول أزمة في الحرب الباردة الجديدة»، من «جبهة رفض للسياسة الأميركية إلى محور مقابل فاعل».
جبهة آسيا – المحيط الهادئ
اعتبار تعاظُم القدرات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الصينية، تهديداً استراتيجياً للريادة الأميركية، واعتماد سياسة احتواء هجومية للتصدّي له، بات توجّهاً رسمياً للإدارات المتعاقبة في واشنطن، منذ ما يقارب العقد من الزمان.
تترجم هذه السياسة بانتشار عسكري أميركي برّي وبحري في جوار الصين، وبإنشاء تحالفات معادية لها كـ«أوكوس»، الذي يضمّ واشنطن وكانبيرا ولندن، ورباعي «كواد»، الذي يجمع أيضاً واشنطن وكانبيرا ونيودلهي وطوكيو، وبتكرار للمناورات العسكرية البحرية الاستفزازية بالقرب من مياهها الإقليمية، وبإطلاقٍ لسباق تسلّح معها وبالعمل على زعزعة استقرارها عبر تشجيع النزعات الانفصالية، كما جرى في هونغ كونغ والتيبت، وكما يجري اليوم مع تايوان.
الحفاظ على وحدة الصين والسعي لاستكمالها عبر استعادة أجزاء منها خضعت لسيطرة الاستعمار الغربي في زمن آخر، نتيجة لموازين قوى ظالمة، كما كانت حال هونغ كونغ في الماضي، وكما هي حال تايوان اليوم، هي من بين الأهداف المركزية للحزب الشيوعي الحاكم.
عندما يتحدّث رئيسها، شي جينبينغ، عن استعادة وحدة الصين باعتبارها «مهمّة تاريخية والتزام لا يتزعزع»، هو يعني ما يقول. ولا ريب في أنّ موازين القوى المتحوّلة تدريجياً لغير مصلحة واشنطن، تزيد من قناعته بإمكانية إنجاز هذه المهمّة التاريخية في مدّة ليست ببعيدة.
تتذرّع إدارة بايدن بمبدأ حقّ الشعوب بتقرير مصيرها لتسوّغ دعمها للأنظمة المعادية للصين في جوارها، غير أنّها تتناسى أنّها تقف حجر عثرة أمام ممارسة الأمة الصينية لمثل هذا الحق عبر إنجاز وحدتها الترابية، وأنّ هكذا موقف ستترتّب عليه أكلافٌ باهظة بالنسبة إليها.
كسر منظومة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية
عندما انسحبت إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، فعلت ذلك رغم التزام طهران الحرفي به، وهو ما أكّدته جميع الأجهزة الأمنية الأميركية والغربية، إضافة إلى وكالة الطاقة النووية.
الغاية المُعلنة لهذا الانسحاب كانت ممارسة ضغوط قصوى على إيران لحملها على التوقّف عن تطوير قدراتها العسكرية والصاروخية كمّاً ونوعاً، وعن مساعدة بقية أطراف محور المقاومة على فعل الأمر عينه.
النووي كان الذريعة، والهدف الفعلي كان البرنامج الصاروخي. الخلفيات نفسها تفسّر عدم مبادرة إدارة بايدن للعودة للالتزام بموجبات الاتفاق النووي، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة هي من خرج منه، ورفضها لرفع جميع العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على إيران.
لا تنسجم هذه المقاربة مع الاستراتيجية المُعلنة للإدارة، وهي التفرّغ للتحدّي الصيني و«تخفيض التوتّر» في الشرق الأوسط، غير أنّ ضعفها في الداخل الأميركي يضعها في موقع العاجز عن مقاومة ضغوط الجمهوريين وأنصار إسرائيل.
وأيّاً كانت الأسباب، فإنّ الإدارة الحالية تجد نفسها، جنباً إلى جنب مع إسرائيل، في مجابهة مع التطلّعات التاريخية العميقة لشعوب المنطقة وقواها الوطنية، وفي طليعتها محور المقاومة، للتحرّر من الهيمنة والاحتلال، وتقرير المصير الفعلي لا الشكلي. كسر منظومة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية بالنسبة لهذه الشعوب هو المدخل الوحيد لتحقيق الغايات المذكورة.
التحوّل المتسارع في موازين القوى الإجمالية على صعيدٍ عالمي، وما ينجم عنه من تراجع في قدرة الولايات المتحدة على السيطرة والتحكّم، هو الذي يحفّز القوى الدولية الصاعدة على التصدّي لمشاريعها والتنسيق في ما بينها في مواجهتها. وإذا لم تعمد الأخيرة إلى إيجاد تسويات مع بعض تلك القوى، كروسيا و/أو إيران، للتفرّغ لمواجهة الصين، فإنّ الأزمات المتفاقمة ستتفاعل في ما بينهما، وسيتّجه خصوم الولايات المتحدة إلى تطوير نوعي للتعاون والتنسيق في ما بينهم.
* د. وليد شرارة كاتب وباحث لبناني في العلاقات الدولية
المصدر| الأخبار اللبنانية
موضوعات تهمك: