سأقول لك لما ؟
لأنه حين كان يمضى فى الشارع، كان وحيدا، كانت السيارات التي تمرق من خلفه مُحدثة صَوتها الفوووووو، غير أنْ الارتباك الذي صَّاحب حالته أفقده وعيه بوجودها متجددا وظل هائما في ملكوت ، يفكر بالأمر
بطيئة هي الأيام لكنها تمر كمُرور الوقت والزمن، أقدامه الساخنة على رمال غربة مَقيتة فى صحراء التذكر تمضغ ما تبقي من عناقيد الحاضر، حين تمضي الأيام قاحلة من الطيبين، تقعد كالمرصاد مع الفقراء، تسكن صبرهم والدموع، أيام تتداولها الساعات بدقات منتظمة،دق ، دق ، كل ليل وكل نهار بلا وجع غير ظلال شاحبة وسماء واقفة تظلل الريح في شتاء عنيد، ينخرالمساء البارد جسده الضعيف، ينام مع رائحة البرد وصوت الفضاء الواهن إلا من أوجاع تحل أخر الليل، لكنها الأيام تمر عفويا تأتيه فى حلم واهن، تقطر الزيت والحليب فى ليله الحالك، كي ينير الطريق.. كانت جهامة السير كما اعتاد هي المحك الأخير لاختبارات القلق والتوتر، تمتد قدماه النحيلتان كمسمارين من حديد صدأ، يفكر هذا المساء فى أن ينهى هذه الحياة القصيرة جدا، آلمه الوجع من وجود أبناء له، وآلمه أكثر تعلقهم به
هذا الفقد المتصور أعياه حتى أنه فى أثناء هذا السير تمنى لو انزلقت قدمه من هذا الجسد التافه أمام إحدى السيارات المسرعة جدا دون قصد منه.. ونام متمددا في منتصف الطريق، لحظات وينتهي كل شيء، التفت للخلف وقطب جبينه، كان شاردا لدرجة أنه لم ير المنظر جيدا
كان الرجل ممددا على طاولة الطريق، رجلا كأي رجل مات بسيارة مسرعة
أبعد الناس، شق فى الزحام صفوفا كثيرة مُتفاديا الأيادي وأجسام ضخمة تشرئب بعنقها، وعبارات السلوان والتساؤل التي اعترضت مروره المفاجىء، والمُصر على الوصول حتى مكان تواجد الجثة، وقف أمامها مباشرة وهى ملقاة على الأرض، كان هو وجهه الذي رأى تماما، شعره المنكوش وبنطاله الذي يرتدى، ساعة يده التي يحبها فى اليد اليمنى، العلامة في خده الأيسر علي أثر رفسة فرس جامح في طفولته، رفع حاجبيه مُندهشا، مُعاودا النظر ومدققا فى الملامح التي يعرف، نفس هذه السحنة التي يراها يوميا فى المرآة، غير أنها تختلف قليلا من حيث الفرق بين أن تراك على حقيقتك وجها لوجه أو من خلف مرآة تعكس الصور، تأكد أنه لم ير صورته سابقا إلا مرات معدودة سواء فى ذلك البرواز الخشبي القديم أو عبر زجاج المرآة المشروخ في حجرة النوم.
انحنى برأسه يُطالعه جيدا/ أنه هو.. تأكد من التفاصيل الأخرى، أعاد النظر للواقفين فى حزن أعاد عينيه بسرعة فوق الجثة الملقاة، تفرس الملامح ثانية، تضاريس الوجه والملابس تلك التي يرتديها ساعة اليد فى يده هي نفسها، اقشعر بدنه لحظات مستغرقا فى التفاصيل الأخرى
المساء كان حزينا جدا والليل مُستعدا للهطول بأكثر من هذه المساحة من السواد الحالك فوق أكتافه النحيلة، تخرج ألسنتها كالكلاب المسعورة، مساحات الهلع تلك التي أحاطت بالمكان كي تسكنها غربان ووطاويط وريبة موحشة، هذا التوحش الذي أدمى الجثة من الساقين وفوق البطن وجعله يتحسس بدقة تلك المواضع من جسده تفقد كل شيء حتى ذكورته الخائبة فى هذا الليل الذي استغرق ساعات أخرى فى نفس الليل، هز رأسه وتحدث الي أحد الواقفين لم يلتفت إليه
ابتلت شموع المساء بضحكاتها ترن ووسطها الذي تمايل دون داعي حبة وحيدة من الفياجرا وشجرة من البرتقال وعقود من الياسمين، يفكر هو فيها بلا طائل لبلوغ أي شيء غير شهيق حاد وتنهيدة عميقة، كانت تفكر فيه بنفس ذلك القدر لكن بشكل مغاير، تنتظره من أول الشهر إلى أخر الليل حتى ولو كان متأففا بعد سفر طويل وإرهاق يبدو على وجهه الأسمر النحيل
أعاد النظرات على المتجمعين من المارة وعلى سيارة الإسعاف وهم يحملون الجثة وسط صيحات وهمهمات الواقفين، كان قريبا جدا حتى دفعه أحدهم بيده صاعدا لأعلى السيارة إلى جوار الجثة لا يذكر من الذي قال أنه قريبه، وأن الملامح متشابهة، أقفل السائق سيارة الإسعاف من الخلف وتركهم معا أطلق صوت الإسعاف، أبوق الخطر تدق كلية فى دماغه الذي بدأ فى الانهيار تدريجيا كلما تأمل الرجل،
أعاد في هدوء وروية عيونه على الجثة الملقاة أمامه مباشرة، تفحصها جيدا، كانت تتململ وتحاول التحدث، قّرب أذنه من فمه تماما، حاول أن يستدير برقبته إلى أقصى حد ممكن كي يبلغ بعينه أذنه ومن التفتت عيونه حتى يرى أذنه الكبيرة بلا فائدة
هَمّ أن يسأله غير أن حالته المزرية وهذا الخلط الغريب فى الشكل أفقده قدرته على نطق حرف واحد أفاق من ثباته العميق، ونظراته المتبرمة بكل شيء حوله على صوت زاعق يقول له: ها هو أنت
نعم هو أنا لابد انه أنا .. لا فرق بيني وبيني هنا أو هناك
هذه الساعة القديمة فى معصمه لي، خلعها من يده بقوة وعنف ووضعها فى جيبه فى هدوء، نظر إلى وجهه الصامت والى ملامحه الدقيقة مد أصابعه عليها كانت باردة ومبللة بالدماء مد يده إلى سترته التي يرتديها اخرج منها ورقة صغيرة بها أرقام هواتف بحث جيدا، أخرج النقود من جيب سترته ودسها بقوة في قميصه الأعلي، لم يجد شيئا أخر قذف بها فى الهواء تفل عليه قائلا: زبال
مد يده يفتش فى جيوب البنطال الخاوية، حتى من أي شيء سوى الرعب الطبيعي فى كونها يجب أن تكون ممتلئة، لم يجد شيئا، أعاد نظرة غاضبة على الجثة الملقاة أمامه وهَمّ أن يصفعه باليد غير انه تحسس محاولة منه لفتح عينيه فتوقف فى منتصف الطريق، فكر أن يقفز من السيارة التي تمضى مُسرعة وأن يترك كل شيء كما هو غير أن الوقت كان أسرع منه كان الطريق خاليا تماما وهو وحيدا معه فى سيارة الإسعاف، أزعجه انه أراد فتح عينيه كان يحاول بجهد جهيد أن يفتح عينيه تمنى لو توقف الإسعاف الأن كي ينزل، كان خائفا ومتوترا
والليل أسودا حالكا تمكن أخيرا من فتح الباب، كاد يقفز لكنه تراجع، لما سمع نداء باسمه يا عبد ربه مد يده على الجثة، حاول أن يسحبها للخلف، قرب الباب كان التروللى ثابتا حاول أن يرفعه لم يستطع أول الأمر غير انه استطاع أن يسقطها إلى أرضية السيارة بعد وقت كان قد اقترب تماما من وضعها بطريقة مناسبة للقذف بها خارجا، كانت السيارة مُسرعة والطريق خلفها يعج بالسيارات الأكثر سرعة، عندما هَمّ بالقاءها من الباب الخلفي مد يده إلى معصمه وقبض عليه ساحبا إياه إلى الخلف فسقطا معا وسط السيارات المسرعة.
اشرف الخريبي
روائي وناقد مصري عربي