بنية الإقليم الشرق أوسطي مقبلة على تفاعلات عميقة تنتظر من يحسن التقاط خيوطها.
جوهر الاستراتيجية الاسرائيلية في موضوع فلسطين هو تحويل تدريجي متواصل للصراع العربي الصهيوني.
إعادة توجيه الارث الفكري من ديني وفلسفي وفني وثقافة شعبية نحو مفاهيم ومناهج تفكير تتواءم مع التحول نحو النموذج غير الصفري!
تصفية الكيانية السياسية الفلسطينية كمنظمة التحرير أو كسلطة أو كتنظيمات سياسية وتحويلها لموضوع ثقافة فرعية تتبناها اقلية سكانية.
تحويل العلاقة بين الطرفين العربي والصهيوني من مستوى الصراع (واستخدام القوة الخشنة) الى مستوى النزاع (إدارة الخلاف باستخدام القوة الناعمة).
التحويل الجيوستراتيجي من موضوع قومي إسلامي الى موضوع محلي بين إسرائيل وفلسطين أي تجفيف دعم الفلسطينيين ليعتمدوا على قدراتهم الذاتية فقط.
تحويل موضوع فلسطين من مركزي الى هامشي بجر دول عربية الى صراعات حادة مع قوى دولية واقليمية تقود تدريجيا لتراجع أولوية قضية فلسطين.
المشروع الفلسطيني يعيش أشد لحظاته خطورة وتغيير المشهد يكون بعودة عكسية للمراحل الثلاث وأي خيار خلاف ذلك سيدعم المشروع الصهيوني.
* * *
بقلم: وليد عبدالحي
جوهر الاستراتيجية الاسرائيلية في موضوع فلسطين هو تحويل تدريجي متواصل للصراع العربي الصهيوني عبر ثلاث خطوات استراتيجية هي :
أولا: تغييب منظورالصراع الصفري عربيا (أي الحالة التي يكون فيها اي مكسب لطرف هو خسارة موازية للطرف الآخر:اي بالتعبير الرياضي +1/ -1 ويتحقق ذلك عبر :
أ- الخطوة الاولى : تحويل العلاقة بين الطرفين العربي والصهيوني من مستوى الصراع (المستوى الذي يقوم على استخدام القوة الخشنة بأشكالها المختلفة) الى مستوى النزاع (الذي تقوم ادارة الخلاف فيه عبر استخدام كل اشكال القوة الناعمة فقط)، وقد نجحت إسرائيل في الخطوة الاولى وهي التحويل من صراع Conflict الى نزاع Dispute عبر تطويق تدريجي لفكرة الحرب الشعبية اولا ثم الحرب التقليدية وصولا إلى حد التشارك في عمليات عسكرية تدريبية بين العرب واسرائيل.
ب- التحويل الجيوستراتيجي من موضوع قومي إسلامي الى موضوع محلي بين إسرائيل وفلسطين، وهو ما يعني تجفيف منابع الدعم للفلسطينيين ليعتمدوا على قدراتهم الذاتية فقط وهي قدرات محدودة للغاية وبالتالي زيادة الخلل في ميزان القوى الى الحد الذي تصبح فيه اسرائيل دولة يقر الفلسطينيون بشرعيتها.. وقد حدث ذللك عام 1988.
ت- تحويل الموضوع الفلسطيني من موضوع مركزي الى موضوع هامشي من خلال جر الدول العربية الى صراعات حادة مع قوى دولية واقليمية مختلفة تقود تدريجيا الى تراجع في أولوية الموضوع الفلسطيني، وبدأت هذه الاستراتيجية تتحسس البنيات الرخوة في الاقليم لتوظيفها لصالح إسرائيل مثل جر العراق الى الحرب ضد ايران ثم الكويت، واستقطاب تركيا لنهش سوريا، ثم فتح نزاع بين اثيوبيا وكل من مصر والسودان، ثم نبش الصراع الجزائري المغربي ناهيك عن نبش البنيات الداخلية في كل دولة، فاسرائيل لم تخلق هذه النزاعات بل توظفها أو تنبش في تربتها.
ثانيا: مرحلة التحول الى نزاع “غير صفري” ويقوم ذلك على فكرة محددة وهي ان كل توسيع لمصالح عربية إسرائيلية مشتركة سيجعل مساحة التناقض بين الطرفين تتناقص، أي محاصرة المصالح المتناقضة (مثل فلسطين) من خلال خلق دائرة مصالح مشتركة يين العرب واسرائيل مثل (مياه ، غاز، موانئ، طيران، مرافق لمشروعات دولية (مشروع الحزام والطريق، الناتو العربي، التعاون التكنولوجي)؛ إعادة توجيه الارث الفكري من ديني وفلسفي وفني وثقافة شعبية نحو مفاهيم ومناهج تفكير تتواءم مع التحول نحو النموذج غير الصفري، والعمل على زيادة سمك طبقة النخب المتماهية مع هذا النموذج، وقد يصل الامر الى حد جعل اسرائيل عضوا مراقبا في مجلس التعاون الخليجي ثم الجامعة العربية.
ثالثا: مرحلة تصفية الكيانية السياسية الفلسطينية كمنظمة التحرير او كسلطة او كتنظيمات سياسية وتحويلها لموضوع ثقافة فرعية تتبناها أقلية سكانية. واؤكد ان السلطة الفلسطينية في رام الله ترتبط ارتباطا عضويا بهذا المشروع منذ الاجتماع الذي اشارت له وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كونداليزا رايس في مذكراتها، بخاصة تفاصيل الاجتماع الذي دار بينها وبين شارون وبوش، والذي تم فيه اتخاذ قرار التخلص من عرفات، ثم قرار تحديد الشخص البديل له بالاسم، وتحديد اسم رئيس وزرائه، ثم تحديد الاستراتيجية التي على السلطة الفلسطينية تبنيها ليتواصل الدعم الامريكي والإسرائيلي لها، وهي الاستراتيجية التي التزمت بها هذه السلطة التزاما تاما، وأدعو كل متشكك لان يعود الى كتاب الوزيرة الامريكية رايس الصادر عام 2012 بعنوان:
No Higher Honor: A Memoir of my Years in Washington
ويكفي العودة لتفاصيل ما أشارت له في الصفحات من 77-81 ثم الصفحات من 165 الى 178،وصفحة 255 الى 260 ثم الصفحات من 340 الى 386، ومن 436الى 486 والصفحات 629 و 706.
ومن المؤكد ان هناك تداخل لحدود هذه المراحل الثلاث التي اشرت لها (من صراع الى نزاع ثم من صفرية لغير صفرية واخيرا التصفية)، والقراءة للمشروع الصهيوني المشار له يحقق تقدما منذ جرت مناقشة بنوده في مراحل مختلفة وعبر مراكز الدراسات وهيئات صنع القرار الاسرائيلي. وهو يقف على عتبة المرحلة الاخيرة حاليا.
من المؤكد ان المشروع الفلسطيني يعيش اشد لحظاته خطورة ، وتغيير المشهد لن يتم الا بالعودة العكسية للمراحل الثلاث، وأن اي خيار خلاف ذلك سينتهي الى دعم المشروع الصهيوني وتسريع إيقاع تطوره، ولعل نقطة البدء في العودة العكسية هي أن الراي العام العربي في معظمه ما زال يحمل قناعات مخالفة تماما لأبطال مسرح العرائس العربي ، وكما يقول المثل الجزائري “لن يبقى في الواد الا حجارته”،
وثانيا إن بنية الاقليم الشرق اوسطي مقبلة على تفاعلات عميقة تنتظر من يحسن التقاط خيوطها.
ثم ثالثا إن النظام الدولي يعرف تحولا في احشائه ويحتاج لمن يدرك الاتجاه الاعظم لهذا التحول والذي نشرت حوله عشرات الوثائق الرسمية والاكاديمية، ورغم اختلاف جنسيات واضعي هذه الوثائق الا ان قسماتها تتماثل من حيث البنية لا من حيث استراتيجيات التعامل مع هذه البنية وهو امر طبيعي… ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
* د. وليد عبد الحي أستاذ علوم سياسية، باحث في المستقبليات والاستشراف
موضوعات تهمك: