شركات السلاح “زادت أرباحها إلى مستوى قياسي بلغ 531 مليار دولار، رغم انكماش الاقتصاد العالمي بأكثر من ثلاثة بالمئة”.
تجري “رشوة” الدول الكبرى عبر “طلبيات” السلاح من شركاتها، فتغض النظر عن كثير من الوقائع أو تبتلع الكثير من الاعتبارات.
“بيغاسوس” جزء من عالم سائد متفلت من الضوابط.. عالمٌ في غاية العنف وقد اعتدنا على اعتبار الحروب والأسلحة أبرز ما فيه وهو ما لم يعد صحيحاً تمامًا.
كأن الجفاف والأوبئة والكوارث لا تكفي! تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام السنوي في ديسمبر 2021 عن مبيعات السلاح بالعالم يظهر تصدر منطقتنا المشترين للسلاح!
كثير من الحروب تنطلق أصلاً أو تستمر باستطالة مرعبة لتبرير صفقات السلاح فيضيق الهامش بين “المصلحة الوطنية” والاعتبارات السياسية “العليا” وبين “ضرورات” بيع السلاح أو “ضرورات” رشوة الدول المصنِّعة.. كلاهما!
* * *
ليس فريداً أو استثنائياً سلوك شركة NSO الإسرائيلية المنتجة لـ”بيغاسوس”، برنامج التجسس الهاتفي الشهير المباع الى كل أرجاء العالم، والموظف في مجالات شتى، منها ما يخص المجال الفردي أو مجال حقوق الإنسان، ومنها ما يسهّل عمليات الاغتيال، ومنها ما يتنصت على الرؤساء والسياسيين وعلى المنشآت العسكرية والأمنية، وحتى على المشاريع الصناعية الخ…
هذه استباحة اعتبرت إسرائيل– كعادتها في كل شيء– أنها متاحة لها طالما هي متمكنة منها تقنياً، ولم تكن مخطئة كثيراً، إذ كان غضب المسئولين في العالم الذين خضعوا للتنصت أو خضعت “مصالح” بلدانهم للتجسس، محدوداً، ومن طبيعة لم تردع الشركة ومن يقف وراءها، أي لوبي السلاح الموجود في السلطة، ولم تحُل دون التباهي والإمعان في الصفقات، مع الإعلان حيث يلزم عن “ضمانات” تحفظية لا شيء يقول أنها –حتى هي– فعلية.
و”بيغاسوس” جزء من العالم السائد، المتفلت من كل ضوابط، وهو عالمٌ في غاية العنف. وقد اعتدنا على اعتبار الحروب والأسلحة أبرز ما فيه، وهو مما لم يعد صحيحاً بالكامل، لأن التغييرات المناخية مثلاً، وعوامل الطبيعة المنفلتة، لا تقل عن الحروب عنفاً وأذىً يلحق بالناس.
وفي مناطق معينة يمكن – حتى الآن – احتواء بعض نتائجها باعتبار تلك المناطق ما زالت تتمتع ببعض الثراء أو بسلطات قادرة على الفعل، كما حدث مؤخراً في ولاية “كنتاكي” الأمريكية، بينما في مناطق أخرى – أو في جل الكرة الأرضية – فهي تدمر حياة البشر إلى الأبد عبر الضحايا المباشرين، أو عبر الجفاف والنزوحات الكبرى والمجاعات.
وهو ما ينبئنا به مثلاً الجفاف اللاحق بسوريا والعراق، أهراءات العالم حتّى عقود قليلة، اللذين بات نصف سكانهما يعاني اليوم من الجوع، فيهجر أماكنه والأرض التي عاش عليها ومنها، متكدساً في مدن رثة أصلاً.
وقد قيل أن ذلك هو من الأسباب الرئيسية لما عاشته سوريا من اضطراب عميق وعنف مريع في العقد الفائت، حيث نزح عشرات الآلاف من سكان الجزيرة، الأرض الزراعية والرعوية بامتياز، إلى ضواحي دمشق والمدن الكبرى بحثاً عن العمل والقوت، بعدما بارت أراضيهم ولم تعد قادرة حتى على إطعامهم. وهو ما يحدث في العراق منذ سنوات وتتم تغطيته بخطاب مذهبي/سياسي متهافت…
وهو ما يحدث مع انفلات الأوبئة والجائحات التي يتسبب بها تلاعب البشر بالطبيعة واستغلالهم الفائق لها، كما حدث مع “كوفيد” في السنتين الماضيتين، والله أعلم بالآتي..
وكأن ذلك كله لا يكفي! فها معهد ستوكهولم لأبحاث السلام ((SIPRI، يصدر كعادته تقريره السنوي في 6 كانون الأول/ديسمبر 2021، عن مبيعات السلاح في العالم، فتتصدر منطقتنا قائمة المشترين!
ولكن ربما والأهم بداية، أن التقرير يشير الى أن أرباح الشركات صانعة السلاح قد تضاعفت ” رغم جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، فيما عملت بعض الحكومات على مساعدة تلك الشركات بإجراءات تحفيزية”، وأن ذلك يجري للعام السادس على التوالي.
ويقول التقرير أن تلك الشركات “زادت أرباحها إلى مستوى قياسي بلغ 531 مليار دولار، على الرغم من انكماش الاقتصاد العالمي بأكثر من ثلاثة في المئة”.
وتحوز الولايات المتحدة على حصة الأسد من هذه التجارة (54 بالمئة) بينما تراجعت حصة روسيا من 11 الى 5 بالمئة، وتقدمت حصة الصين الى 13 بالمئة، تليها بريطانيا (7 بالمئة). وأن بيع السلاح لا يتحقق من دون رعاية واهتمام ومساهمة السلطات السياسية فيه، التي تنسق الاتفاقيات مع تلك الشركات.
كما أن الأبحاث العلمية والتقنية والابتكارات، وكل ما يقال تمجيداً لـ”الذكاء الاصطناعي”، توظف بكثافة في هذا المجال، وهناك ما هو مرعب بالفعل، وقد تكون المعلومات التي تخصها سُربت تهيئةً للقادم ولتحويله إلى شأن مألوف، كمثال “الروبوت القاتل”. ويؤكد التقرير أن الهامش ما بين ما هو مدني وما هو عسكري تقلص حتى كاد يختفي.
ولأن صفقات السلاح تخضع للمدى الطويل نسبياً (لاعتبارات حاجات التصنيع أساساً) فتقول الأرقام أنه للفترة ما بين 2016 و2020، كانت السعودية على رأس قائمة مستوردي السلاح في العالم (29 في المئة منها)، تليها مصر (14.2 في المئة) فالجزائر (10.4 في المئة) فالإمارات (8.5 في المئة) وأخيراً العراق (8.4 في المئة)!
ولعله تجري “رشوة” الدول الكبرى عبر “الطلبيات” من السلاح من شركاتها، فتغض النظر عن كثير من الوقائع أو تبتلع الكثير من الاعتبارات. علماً أنه، وبالمقابل، فهذه الدول الكبرى والمتنفذة تبتز الأولى بـ”ملفات” يمكنها تحريكها حسب الطلب، كوسيلة لإقناعها بالشراء وبذل المال.
يعني أن الأمر ليس فحسب اضمحلالاً متعاظماً للفارق بين ما هو مدني وما هو عسكري، على ما يقول “معهد استوكهولم”، وإنما كذلك بين السلطة السياسية وشركات تصنيع وبيع السلاح، وهو كان هامشاً رفيعاً على أية حال.
وأخيراً، فلعل الكثير من الحروب تنطلق أصلاً أو تستمر باستطالة مرعبة لتبرير كل هذا، فيضيق هنا أيضاً الهامش بين “المصلحة الوطنية” والاعتبارات السياسية “العليا”، وبين “ضرورات” بيع السلاح، أو “ضرورات” رشوة الدول المصنِّعة.. كلاهما!
* د. نهلة الشهال أستاذة وباحثة في الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير “السفير العربي”.
المصدر| السفير العربي
موضوعات تهمك: