تقلبات العلاقات الروسية الإسرائيلية أثمرت مصلحة ملتبسة للأخيرة حول علاقات روسيا وإسرائيل في سوريا..
يهود روسيا
هجرة اليهود الروس لفلسطين تعود لعقد السبعينيات من القرن الثامن عشر على خلفية “المذابح” التي تعرضوا لها في روسيا القيصرية، “واتجهت غالبيتهم نحو الولايات المتحدة.”
أصول اليهود الروس، وفق المؤرخ اليهودي آرثر كوستلر، في مخطوطته “السبط الثالث عشر،” أي نسل يعقوب من أولاده الإثني عشر، إلى كونهم رعايا مملكة الخزر الذين تهودوا مع تبنيها الديانة اليهودية، في القرن التاسع وحتى الحادي عشر الميلاديين. أي أنهم ليسوا ذو أصول “سامية.”
أقام اليهود الروس اولى مستوطناتهم الزراعية على اراضي قرية “عيون قارة” العربية جنوبي مدينة يافا عام 1882، اطلقوا عليها اسم “ريشون ليتسيون – أي الأول إلى صهيون،” لم يزد عدد عناصرها الاوائل عن 10 أفراد أتوا من مدينة خاركوف باوكرانيا؛ توسعت المستوطنة منذئذ لتضم نحو 250 ألف مستوطن وفق احصائيات عام 2006.
يجمع المؤرخون على أن الدوافع الأولى لهجرة اليهود “الروس” كانت لأسباب سياسية صرفة، رافقها صراع القطبين العظميين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وما شهدتها تلك المرحلة من اختراقات متبادلة كان اليهود الروس أحد رؤوس رماحها لدى الولايات المتحدة والدول الغربية. وشددت الأخيرة الضغوط على موسكو لاطلاق سراح أفراد معينين يتميزون بعدائهم للنظام الإشتراكي السوفياتي، العالم الفيزيائي ساخاروف والمنشق ناتان شرانسكي، كمدخل لفتح الباب على مصراعيه لهجرة مئات الآلاف من اليهود. أما الهجرة الثانية “الجماعية” فكانت ذات دوافع اقتصادية بالدرجة الاولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
العلاقات السوفياتية/الروسية مع “اسرائيل” كانت مصدر قلق لدى العرب، من الساسة والعامة، على السواء، لانحيازها السافر في البدء إلى جانب تجسيد وعد بلفور وقبولها قرار التقسيم، بيد أن المتطلبات السياسية تكمن في تطويع المواقف لخدمة المصالح كما يراها الطرف الأقوى في المعادلة.
جدير بالذكر أن محاولة الإغتيال الوحيدة التي تعرض لها مؤسس الاتحاد السوفياتي، فلاديمير لينين، كانت على يد ناشطة يهودية في الحزب البلشفي، فانيا يفيموفا كابلان، 1918؛ ونُفّذ فيها حكم الاعدام رمياً بالرصاص بعد أربعة أيام من المحاولة الفاشلة. وساد القلق اوساط الحزب البلشفي من ولاء “اليهود” للنظام الإشتراكي.
يخبرنا التاريخ بقيام السلطات السوفياتية حظر “اللغة اليديشية،” لغة يهود روسيا واوروبا آنذاك، وتضييق المساحة على “المؤسسات والمعاهد والمدارس والصحف” التي تخصهم لا سيما بعه توقيع وزيري خارجية البلدين معاهدة مولوتوف – فون ريبنتروب، 1939، كانت بمثابة معاهدة عدم اعتداء بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية، والتي ينظر إليها في السياق التاريخي بأنها “تقاسم اوروبا الشرقية بين ستالين وهتلر.”
كما حظر جوزيف ستالين نشاطات “الحزب الشيوعي اليهودي،” عام 1927 في أعقاب ارسال الحزب المذكور “ضابطاَ يهودياً كبيراً في الجيش الروسي، جوزيف ترومبلدوز، إلى فلسطين لتدريب” الميليشيات والعصابات الصهيونية.
ووفق رواية وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق، يفغيني بريماكوف، في كتابة روسيا والعرب، فإن كل من لينين وستالين رفضا الحركة الصهيونية ونظرا إليها باعتبارها جزءاً من معسكر “الرجعية الاجتماعية والقومية البرجوازية .. وهدفها الرئيسي تهجير يهود الاتحاد السوفياتي خارج الجمهوريات السوفياتية.”
“انقلاب” موقف ستالين بتأييده مطالب الحركة الصهيوينية لم يتبلور إلا عند بدء الغزو الألماني للأراضي السوفياتية، 1941، لاعتقاده أن ذلك كفيل بقيام “الرأسمالية اليهودية .. توفير المال اللازم للمجهود الحربي السوفياتي؛ والذي جاء بالتزامن مع هروب الآف اليهود من الدول التي اجتاحها النازيون باتجاه الاراضي السوفياتية.”
اقرأ/ي أيضا: كيسنجر والنظام العالمي
ويوضح بريماكوف أن موسكو “سمحت لتشيكوسلوفاكيا ببيع صفقة أسلحة إلى إسرائيل أثناء الهدنة في حرب 1948-1949 مما أدى لقلب نتائج المعركة لصالح إسرائيل؛” ولعبت دوراً مهماً في تعزيز قدرة العصابات الصهيونية ارتكاب المجازر والتطهير العرقي للفلسطينين. وفي هذا الصدد يبرز دور عضو “عصبة التحرر – ولاحقاً الحزب الشيوعي “الاسرائيلي – راكاح،” إميل حبيبي الذي تم تكليفه أنذاك بالمشاركة في عقد صفقة التسليح المشار إليها؛ رغم أن هذا ليس موضوعنا قيد البحث. (عودة الأشهب مذكرات عودة الأشهب، بيرزيت، 1999).
القشة التي قصمت ظهر ستالين جاءت عالم 1951 كانت عبر اكتشاف المسؤولين “السوفيات فرقة من الأطباء اليهود .. يقومون بمعالجة كبار رجالات الدولة السوفياتية سعوا إلى تسميمهم جميعاً وعلى رأسهم ستالين.” جرت محاكمة سريعة للأطباء ونفذ فيهم حكم الإعدام، وساد شعور في أعلى المستويات السياسية بأن “لإسرائيل يد في ذلك.” نشرة (رصيف22، 25 أيلول 2018).
وتحولت العلاقة في ظرف زمني قصير لا يتجاوز السنوات الثلاث من علاقة صداقة إلى “تباعد” وريبة بين تل أبيب وموسكو. وتشير كتب التاريخ إلى تصويت موسكو ضد قرارات توسع نفوذ “اسرائيل” للملاحة في مياه البحر الأحمر، عام 1951، دون تنسيق مسبق مع الدول العربية. وفي عام 1953، قطعت موسكو علاقاتها الديبلوماسية مع تل أبيب بسبب “انحيازها المطلق لأميركا.”
شكل العدوان الثلاثي على مصر، 1956، نقطة تحول بارزة في انحياز الموقف السوفياتي لجانب العرب، على خلفية الصراع الكوني على النفوذ في المنطقة بين الاتحاد السوفياتي وافول الدور الاستعماري القديم للدول الغربية. ودخلت العلاقات العربية – السوفياتية “عصراً ذهبياً” استمر لحين “غدر” الرئيس أنور السادات بطرده المستشارين السوفييت من مصر طمعاً منه في نيل عطف الغرب.
بوتين و”إسرائيل”
استأنفت روسيا علاقاتها “الديبلوماسية مع اسرائيل” في تشرين الأول/اكتوبر 1991، بعد نحو ربع قرن على قطع “الاتحاد السوفياتي” العلاقة معها بعد حرب عام 1967؛ وتوطدت العلاقة مجدداً بينهما منذ تبوء الرئيس فلاديمير بوتين منصبه في ولايته الأولى، آذار/مارس 2000، “إثر تدهورها في عهد وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق يفغيني بريماكوف، الذي كان بالتأكيد أكثر تأييداً للعرب” وفق تقرير لـ معهد واشنطن. وتحسنت باضطراد منذئذ حيث تجاوز ميزان التبادل التجاري بينهما 3 مليار دولار، لمنتصف عام 2014. كما شهدت العلاقة العسكرية تحسناً لافتاً ايضاً، توجت بشراء روسيا “10 طائرات استطلاع اسرائيلية،” اواخر عام 2015.
لم ينفك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن “التغزل” بعلاقة بلاده مع “إسرائيل،” ونُقل عنه في خطاب ألقاه يوم 20 تموز/يوليو 2011 أن “إسرائيل دولة لها مكانة خاصة لدينا، وتعتبر عمليا دولة ناطقة بالروسية، لأن نصف سكانها يتحدثون الروسية (النسبة لا تزيد عن 20% في الحقيقة – الإضافة من عندنا)، ويمكن اعتبارها جزءاً من العالم والثقافة الروسية، والكثير من الثقافة الإسرائيلية ما هي إلا ثقافة روسية، وكافة الأغاني الوطنية الإسرائيلية هي أغاني روسية.”
في حزيران/يونيو 2012، زار بوتين “إسرائيل،” قبل تسعة أشهر من قيام الرئيس الأميركي باراك أوباما بزيارته الأولى لها كرئيس للولايات المتحدة. وفي لقائه مع “الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في القدس،” قال بوتين: “تقوم مصلحة روسيا الوطنية على توفير السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، والسلام والاستقرار للشعب الإسرائيلي. وليس من باب الصدفة أن يكون الاتحاد السوفياتي من بين المبادرين والداعمين لإنشاء دولة إسرائيل.” (تقرير معهد واشنطن).
كما صرح بوتين في أعقاب العدوان “الإسرائيلي” على غزة، 2014، بأنه “يؤيد اسرائيل في معركتها الرامية لحماية مواطنيها.”
قرار بوتين بالتدخل عسكرياً في سوريا، تشرين الثاني/نوفمبر 2015، واكبه الحرص على التواصل العلني مع تل أبيب، توّجه نتنياهو بزيارات متكررة لموسكو، على قاعدة “تمكين كل طرف تحقيق مصالحه” في سوريا دون تعريض مصالح الطرف الآخر للخطر؛ على الرغم من تعاظم الدلائل التي تشير إلى ان الرابح الأكبر من تلك العلاقة ليست روسيا، إلى حين حادثة سقوط طائرة استطلاعها، إيل-20، فوق المياه الإقليمية السورية وتحميل “اسرائيل” المسؤولية المباشرة عنها وما رافقها من تدابير عسكرية تصب في ضعضعة الموقف الأميركي ومؤيديه.
من أبرز دوافع الرئيس بوتين لنسج علاقة حميمية مع “اسرائيل” تعويله على استرضاء “اللوبي اليهودي الروسي” ليس لتأييد قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا فحسب، بل لتسخيره أيضاً في مواجهة الإجراءات الأميركية والغربية بمقاطعة ومحاصرة روسيا، لا سيما في البعد المالي. في هذا الصدد تنبغي الإشارة إلى الدعم والتأييد الهائل الذي حازه بوتين في الانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة، 2018، من بين “اليهود الروس في إسرائيل،” وصلت النسبة لنحو 73%.
بعض المراقبين في الغرب عبروا عن اعتقادهم بأن “مراهنة إسرائيل” عام 2015 كانت تتمحور حول “هروب سريع لروسيا” من سوريا، ومضيها قدماً عقب ذلك في تنفيذ المخطط الأميركي بتقسيم سوريا جغرافياً تحظى هي بحصة في الجنوب السوري، على غرار تجربة جيش لحد في لبنان.
من بين العوامل التي حفزت بوتين تحسين علاقاته “باسرائيل،” وفق تقرير معهد واشنطن، صراعه مع جمهورية الشيشان الموسوم بالانشقاق عن الاتحاد الروسي “..كان أساسه حركة انفصالية علمانية أصبحت ذات طبيعة إسلامية متطرفة.” وأضاف المعهد أن بوتين في تلك الأثناء “شبّه صراع
روسيا ضد الإرهاب بصراع لإسرائيل ضده،” مما دفع رئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق، اريك شارون، إلى نعت الرئيس بوتين “بالصديق الفعلي لإسرائيل.” (شارون كان يتقن اللغة الروسية).
هذا فضلاً عن تنامي تجارة التقنية المتطورة بين البلدين لا سيما “تقنية النانو،” ارتفع ميزان التبادل بينهما إلى “مليار دولار سنوياً بحلول عام 2005” وتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2014، أي وما يعادل 3.5 مليار دولار.
أفاق العلاقة بين موسكو وتل أبيب هي علاقة مركبة بشكل خاص بالنظر إلى ارتباط الأخيرة بالمشروع الأميركي في الهيمنة وإقصاء الآخر. بيد أن التدابير الأميركية الأخيرة “بانسحابها من الشرق الأوسط بات مشكلة بارزة لإسرائيل كونه يقلل من خياراتها” المحلية. اللوبي “الإسرائيلي” الأميركي يرجح استمرار التعاون بين موسكو وتل أبيب “خاصة على الجبهتين الإقتصادية والعسكرية،” لكن بتفاهمات وقواعد جديدة تمليها الأولى رغبة من بوتين إضعاف خصومه الأميركيين “على نطاق كوني واسع.”
المصدر: مركز الأبحاث الأمريكية