النبي ﷺ هو الشخص الوحيد بين جميع الناس الذي يتبع ويقتدى بكل حركة وسلوك وإيماءة قام بها.
النبي ﷺ لم يأت بمعجزة غير القرآن لكن شخصيته المباركة وحالته الإنسانية الفريدة جعلتا منه معجزة بحد ذاته.
كما أن الله سبحانه لم يرسل الكتاب وحده بل أنزله على النبي ليطبقه عمليا، فالنبي لم ينقل كتاب الله فحسب، بل علّم الحكمة أيضا لمن يستطيع أن يفسرها.
بدراسة السيرة النبوية وإعادة فهمها ندرك أنها ليست جهدا نبذله مرة واحدة وإلى الأبد كل زمن يحتاج إلى تجديد الفهم وفقا للاحتياجات والإمكانيات الراهنة.
* * *
بقلم: ياسين أقطاي
الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس أمرا مستحيلا، وهو الأصل الذي يجب أن نضعه دائما نصب أعيننا ونسعى إليه، وأول أصول هذا الاتباع قبل كل شيء يكون بحذو هذا المثال الذي رسمه الله لنا بأوامره وتعليماته وتوجيهاته، أي بإحياء سنته، ومن أجل إحياء سنته يجب على المرء أولا أن يفهمها جيدا، وهذا الفهم لا يمكن إلا من خلال تقديم تفسير واحد صالح لكل زمان ومكان.
يمر البشر بتجارب متنوعة في أزمنة مختلفة ومجتمعات شتى وبطرق متباينة، ومعرفة السنة النبوية في خضم كل هذه الطرق والتجارب تتطلب جهدا وحكمة، والحكمة هي التفسير الأفضل للسلوك البشري، وهي التي علمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته من خلال كتاب الله.
وكما أن الله لم يرسل الكتاب وحده، ولكن أرسل معه النبي ليطبقه بشكل عملي فإن النبي لم ينقل كتاب الله فحسب، بل علّم الحكمة أيضا لمن يستطيع أن يفسرها.
وإذا لم تكن هناك حكمة فإن كلام الله سيفسر دون معرفة سياقه وخلفياته، وقد يؤدي ذلك إلى تأويلات خاطئة ويتحول النص إلى سلاح رهيب في أيدي الجهلة.
كان أول مثال بارز على ذلك ما قام به الخوارج ضد علي بن أبي طالب، كما أن السنوات التالية من التاريخ الإسلامي كانت مليئة بالمشاكل التي خلقتها التأويلات الخاطئة للقرآن والسنة النبوية، وكانت هناك بالطبع تفسيرات دقيقة وحكيمة نقلت إلينا تلك السيرة العطرة.
اليوم، يعد التفسير الدقيق للعلاقة بين النص والواقع، والعلاقة بين النص والتفسير أهم مبحث في تأويل الكتاب والسنة ظهر التأويل كمحاولة لترجمة الرسالة الإلهية الخالدة إلى البشر الفانين، ويرتبط التأويل اليوم أساسا بالطريقة التي يحاول بها الإنسان الفاني تفسير تلك النصوص لغيره من البشر بالطريقة الصحيحة.
ومع ذلك، فإن ما فعله النبي وقاله حتى لو كان “واحدا منا” له أبعاد تتجاوز التأويل العادي للرسالة الإلهية المنقولة إلى لغتنا وعالمنا، لذلك، فإن الجهود التي بذلناها كبشر في تفسير النص هي في النهاية جهد بشري، وتبقى ضمن حدود المعرفة والفهم البشريين، هذا هو الحد الأقصى لفهمنا، وتجاوز هذا الحد لن يؤدي إلا إلى زيادة احتمال الخطأ وتفسير النص بشكل غير دقيق.
إن فهم النبي وفهم الرسالة التي حملها ليسا مهمة يمكن القيام بها مرة واحدة وإلى الأبد، يجب أن يكون هذا الجهد متواصلا مدى الحياة في كل المناسبات وعلى جميع المستويات وخلال كل الأحداث، وفي خضم كل التجارب.
يجب أن نعلم أن النبي هو الشخص الوحيد من بين جميع الناس الذي يمكن اتباعه من جميع الجوانب، والاقتداء بكل حركة وسلوك وإيماءة قام بها.
جاء في القرآن أن النبي لم يأت بمعجزة غير القرآن، لكن شخصيته المباركة وحالته الإنسانية الفريدة جعلتا منه معجزة بحد ذاته، كان النبي يتجول في الأسواق ويبيع ويشتري ويأكل ويشرب مثلنا تماما، ويفرح ويحزن ويضحك ويبكي ويتزوج وينجب الأطفال، ويغضب ويخاصم مثل كل الناس، إنه نموذج مثالي للبشر ومثال يحتذى به، وهو الشخص الوحيد الذي نعلم يقينا أن كل ما قام به يُرضي الخالق.
على سبيل المثال، لا يمكن تقليد النبي عيسى في كل شيء، إنه رجل استثنائي يستحيل تقليده بسبب المعجزات التي جاء بها، وينطبق الأمر ذاته على الأنبياء الآخرين، آدم وموسى ونوح وأيوب، وبالطبع، هناك الكثير مما قدمه هؤلاء الأنبياء للبشرية والأشياء التي يجب أن نتعلمها ونستفيد منها، ولكن لا يمكن تقليدهم في جميع جوانب الحياة.
وبهذا المعنى، فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو استثناء بين جميع الأنبياء الذين جاؤوا بالمعجزات، لأنه لم يكن محتاجا إلى معجزة أخرى غير القرآن، لقد كان استثناء لأنه بشر مثلنا ويمكننا جميعا تقليد أفعاله، إنه استثناء بحد ذاته لا تأتي منه إلا الرحمة والمحبة والشفقة والصبر.
من الواضح أنه من أجل إعادة إحياء سنته من الضروري معرفة وفهم سيرته بشكل جيد للغاية، وفي الواقع لا تكاد توجد أي شخصية أخرى في التاريخ نُقلت تفاصيل حياتها مثلما نقلت إلينا سيرة حياة النبي، بعض هذه التفاصيل تعامل معها المسلمون دون أدنى تغيير، وبعضها تعاملوا معه بمرونة منذ وقت مبكر، إن دراسة سيرة النبي جهد رائع بحد ذاته، وهو مؤشر مهم على ولاء هذه الأمة لنبيها.
مع ذلك، فإننا إذا قمنا بدراسة السيرة النبوية وإعادة فهمها فإننا ندرك أنها ليست جهدا نبذله مرة واحدة وإلى الأبد، كل زمن يحتاج إلى تجديد الفهم وفقا للاحتياجات والإمكانيات الراهنة.
وفي هذا الاتجاه يمكننا القول إن هناك دراسات جادة للسيرة النبوية اليوم ذكرنا منها من قبل دراسة كرونولوجية للسيرة النبوية من مؤسسة كورامر KURAMER، وهي دراسة بحجم وجودة مميزين.
تتضمن الدراسة سيرة الرسول وجهاده ووحي القرآن الكريم وكل الأحداث التي تشير إليها الآيات والأحاديث مع ترتيبها ترتيبا زمنيا، وفي ظل النقص الكبير في مثل هذه الدراسات من الضروري تهنئة محمد أبايدين على تقديم عمل بهذه الدقة وهذه التفاصيل، وأستطيع أن أقول إنه قد وضع حجر أساس جديد للعمل الأكاديمي في مجال الشريعة ببلادنا.
ومن الأعمال الرائعة التي نشرت مؤخرا كتاب “الربيع الأول” لوضاح خنفر أحد ألمع الشخصيات في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ومن المنتظر أن يناقش الكاتب -الذي تناول السيرة من منظور “إستراتيجي”- أفكاره في مناسبة قريبة.
هذه الأشكال من فهم الشريعة والدين وفهم سيرة حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي ما تحتاجه أمتنا وما تحتاجه الأجيال القادمة فيصبحوا قادرين على فهم دينهم بما تقتضيه متطلبات عصرهم فنساعدهم على فهم واقعهم وتحسينه في ضوء منطلقاتهم الدينية والعقائدية الصحيحة.
* د. ياسين أقطاي أكاديمي وسياسي وكاتب تركي.
المصدر| الجزيرة نت
موضوعات تهمك: