هل يحتاج الإسلام إلى فلسفة في الدين تبني عقلانياً ومفهومياً الأدوات والأسس الاعتقادية المتقاسمة لدى المسلمين؟
المستشرق الألماني «جوزف فان أس»، أبرز الجيل المخضرم من الباحثين الغربيين في علم الكلام الإسلامي وأبرز المتخصصين في مذهب المعتزلة.
تعتبر النزعات السلفية وأيديولوجيات الإسلام السياسي علم الكلام الإسلامي لغواً لا بلا فائدة لكن الحاجة لمنظومة تأويلية جديدة للدين تبدو قوية ومتزايدة.
لا شك في أن وضع هذه المنظومة التأويلية يقتضي الرجوع لعلم الكلام من حيث هو تقليد ثري ما يزال قادراً على مدّنا بمادة عميقة للتأمل والتدبر والتفكير.
اللغة الكلامية العتيقة لم تعد ملائمة أو مقبولة للذوق الإسلامي الحالي ومحاولات بناء علم كلام جديد من الإمام محمد عبده إلى حسن حنفي لم تفض إلى نتائج مشجعة.
فهم أهل الاستشراق المعاصر التقليد الكلامي في ارتباطاته بعلوم التأويل الإسلامية وسياق فلسفي كان في حالة جدل مستمر معه وإظهار طرافة وإبداع هذا التقليد.
كان «جوزف فان أس» يرى أن علم الكلام الإسلامي انحسر كلياً ولم يعد بالإمكان إحياؤه على غرار لاهوت توما الإكويني الذي شهد طفرة في مدرسة الفاتيكان المعاصرة.
* * *
بقلم: السيد ولد أباه
أعلن عن وفاة المستشرق الألماني «جوزف فان أس»، أبرز الجيل المخضرم من الباحثين الغربيين في علم الكلام الإسلامي وكبير المتخصصين في مذهب المعتزلة.
يمثل « جوزف فان أس» مدرسة السبعينيات والثمانينيات التي تضم الأميركي ريتشارد فرنك والفرنسي دانيال جيماريه وهما متخصصان بارزان في الأشعرية، وولفرود مادلونغ الذي كتب أعمالا هامة في علم الكلام الإسلامي المبكر والفرق المذهبية الأولى.
إن السمة الغالبة على هذه المدرسة هي الارتباط بالنصوص والتخلي عن النزعة الاستشراقية الأولى التي تأثرت باللاهوت المسيحي وأحكام الفلسفة الوسيطة حول مصنفات علوم الاعتقاد الإسلامية.
فبدلا من النظر إلى علم الكلام الإسلامي كلاهوت جدلي غير مكتمل، أو كمستوى متدن من فلسفة الدين، حاول علماء الاستشراق المعاصر فهم التقليد الكلامي في ارتباطاته المعقَّدة بعلوم التأويل الإسلامية والسياق الفلسفي الذي كان في علاقة جدل وحوار مستمر معه، مع إظهار جوانب الطرافة والإبداع في هذا التقليد.
وفي هذا الباب، عرف «جوزف فان أس» بموسوعته الهامة الصادرة بالألمانية حول «علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة» (4 أجزاء)، وقد لخلصها في مختصرات قدمها على شكل محاضرات جامعية، كما استغل مادتها العلمية في مقالاته المركزة بالموسوعة الإسلامية الصادرة عن دار بريل في هولندا.
خصص «جوزف فان أس» المجلدين الأولين من عمله الرئيسي لعلم الكلام المبكر، أي الفِرق العَقَدية التي انتشرت في الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية خلال العصر الأموي، وكان أبرز أعلامها من كتاب الدولة مثل غيلان الدمشقي وجعد بن درهم وجهم بن صفوان والحسن البصري.
ويرى «فان أس» أن التصنيفات المذهبية المتمحورة حول المرجئة والقَدَرية لم تكن في البداية دقيقةً وإنما هي نتاج الكتابات المتأخرة، كما أن نطاق الأرثوذكسية كان في بدايته واسعاً ولم يكن محصوراً في فئة محددة بعينها.
وفي تركيزه على مرجئة الكوفة وقدَرية البصرة، يرصد «فان أس» بدقة مسار تشكل علم الكلام الإسلامي، منتهياً في المجلد الثالث من عمله الموسوعي إلى الحديث المستفيض عن العصر الذهبي للاعتزال في بغداد التي أصبحت حاضرةَ الدولة الإسلامية الكبرى وحاضنةَ الجدل بين الفِرق الإسلامية المختلفة، منوهاً على الخصوص بمرحلة الخليفة المأمون وما ظهر فيها من نقاش مستفيض حول موضوع خلق القرآن الكريم.
ليس من همنا تلخيص أبحاث «فان أس» الذي لم يقدم أطروحةً فلسفيةً أو تأويليةً جديدةً حول علم الكلام الذي اعتبر عن حق أنه ليس لاهوتاً على غرار قانون الاعتقاد المسيحي، بل الأساس فيه للممارسة والتطبيق لا النظر والتعقل.
لقد اكتفى المستشرق الراحل بتوفير مادة وثائقية هامة ومركّزة في ضوء تاريخ الأفكار في علاقتها بالتحولات السياسية والمجتمعية في العصور الإسلامية الوسطى.
ولا شك في أن نتائج أبحاث «فان أس» يمكن أن تؤسس عليها مقاربات ونظريات جديدة في علم الكلام الإسلامي من منطلقات منهجية مبتكرة.
إنه الجهد الذي بدأ مع مدرسة الإسلاميات الجديدة في أوروبا التي أعادت النظر في المباحث الكلامية في سياق علاقاتها المركبة والكثيفة مع النص الفلسفي اليوناني الإسلامي والعلوم الرياضية الطبيعية، بما كان له أعمق الأثر على تشكل التقليد العقدي في الإسلام (الآن دي لابيرا، مروان راشد، جان بابتست برنيه.. إلخ).
ومن أهم نتائج هذه التحولات المنهجية أن علم الكلام والفلسفة في تاريخ الفكر الإسلامي قد تزامنا وتداخلا منذ بداياتهما الأولى، كما امتزجا بمسار تشكل ونمو علوم الطبيعة والحساب والهندسة والشرع واللغة.
وقد أفضت هذه الديناميكية على المستوى الفلسفي إلى اتجاهين متمايزين:
– أولهما الصياغة الأنطولوجية للحدوس الكلامية في الوجود والطبيعة والأخلاق (بما يظهر في فلسفة ابن سينا)؛
– ثانيهما الصياغة الكلامية للأفكار والمفاهيم الفلسفية في علم الكلام الفلسفي المتأخر (الغزالي وفخر الدين الرازي.. إلخ).
كان «جوزف فان أس» يرى أن علم الكلام الإسلامي قد انحسر كلياً ولم يعد بالإمكان إحياؤه على غرار اللاهوت التومائي الذي شهد طفرة جديدة مع المدرسة الفاتيكانية المعاصرة.
صحيح أن اللغة الكلامية العتيقة لم تعد ملائمة ولا مقبولة للذوق الإسلامي الحالي، كما أن محاولات بناء علم كلام جديد من الإمام محمد عبده إلى حسن حنفي لم تفض إلى نتائج مشجعة.
والسؤال المطروح هنا بقوة حالياً: هل يحتاج الإسلام إلى فلسفة في الدين تبني عقلانيا ومفهوميا الأدوات والأسس الاعتقادية المتقاسمة لدى المسلمين؟
تتفق النزعات السلفية وأيديولوجيات الإسلام السياسي على العداء لعلم الكلام الإسلامي واعتباره لغواً من القول لا حاجة إليه ولا فائدة منه، بيد أن الحاجة إلى منظومة تأويلية جديدة للدين تبدو في الآن نفسه قوية ومتزايدة.
ولا شك في أن وضع منظومة تأويلية يقتضي الرجوع لعلم الكلام من حيث هو تقليد ثري ما يزال قادراً على مدّنا بمادة عميقة للتأمل والتدبر والتفكير.
ومن هنا يساعدنا المجهود البحثي الكثيف لـ«جوزف فان أس»، وإن كانت أفكاره واستنتاجاته محدودة الأثر والتأثير.
* د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر| الاتحاد – أبوظبي
موضوعات تهمك: