وظّف الإيرانيون خطة ومساحة شملت علماء ومساجد للسنة في نسيج ثوب الخرافة الطائفية، فيما استرسلت الرياض في كوارثها السياسية.
استثمرت إيران في المسيحية الطائفية السياسية منذ زمن طويل مستغلةً انقسامات الكتل اللبنانية ذاتها وصراعاتها الدموية والسياسية القديمة.
البحرين فقط التي تزداد هشاشة أمنها القومي، ورهانها الأحمق على إسرائيل، فهي من يلتزم بمضمون الموقف السعودي، في تصعيده على لبنان.
أضحى لبنان مرفأً محطّماً تتربص فيه الطرقات بالمحقق الذي أشار إلى المجرم المعلوم ليُضم إلى الضحايا قبل أن يُحيل الجناة إلى العدالة.
الرياض عجزت، منذ فترة طويلة عن إيجاد فضاء أوسع لاتفاق الطائف تتشكل حوله قوة عربية سنية، كون السُنّة قاعدة الأمة وحاضنة الطوائف.
كل مرةٍ ينكشف فيها الصخب السعودي وحلفه الخليجي يتبين أنّ إيران كسبت جولة بل معارك تنهار فيها الرابطة العروبية التي حاولت أن تكافح ثقافة المحاصصة الطائفية في الدستور.
* * *
بقلم: مهنا الجبيل
في وقتٍ تقود فيه الرياض حملتها الشرسة على الحكومة اللبنانية، بسبب تصريحات قديمة للوزير جورج قرداحي، المعروف، قديماً، بولائه للنظام السوري وحزب الله، أكد المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية، أنّ المباحثات مع السعوديين تتقدم.
وهي، بحسب ما يُرصد لتقييم إيران، تسير بحسب التخطيط الإيراني الذي دُحرج على السعوديين من غرفة مسقط، ثم المنطقة الخضراء في بغداد، ثم المفاوضات المباشرة.
وسواء تعثرت المفاوضات مستقبلاً أو اكتملت، فهناك تقييماً عاماً مهماً لموقف الطرفين الإقليميين، تبدو إيران، بوضوح جلي، ممسكةً بمصالحها ومشروعها الطائفي، بشقّيه، السياسي والولائي، في الأرض العربية، وتُهيمن بالفعل على أربع عواصم عربية، تمتلك فيها القرار.
فضلاً عن الترويج الهائل للخرافة المذهبية، وتسخير الناس لها، أو الخرافة الأخرى أنّها الطرف المقابل للصهيونية، وهي مقابل بالفعل، لكن ضد العرب واستقلالهم، وتقاطعاً مع المعركة الإسرائيلية الكبرى، لا مواجهة حقيقية معها، رغم بازار الصراع الذي ضُبط بين الطرفين.
وقرارها القومي الذي يُمثل الأمة الفارسية مؤشّر مروّع لمساحة ابتعاد فارس الحضارية المسلمة عن العرب، وعن الرسالة الإسلامية وحقيقتها الفكرية ومؤاخاتها للأمم، لكنّ إيران تتجاوز كلّ مواسم التصعيد التي راهن عليها الخليج العربي، أو قُل بعضه أو نصفه.
فإيران اليوم باتت حليفاً لأمن بعض هذه الدول، منذ نفّذ المحور حملة الحصار على قطر، فحُسمت لدى العقل الصامت في دول الخليج الصغيرة مخاوف لا تمسحها الاتفاقات التصالحية بسهولة.
هذا فضلاً عن مسقط وتاريخ عُمان الأئمة الذي كان هو الوحيد، من الدول المتبقية للعهد التاريخي للخليج العربي، شكّل قديماً قوة توازنٍ مع النفوذ الفارسي.
فالخليج العربي القديم كانت تحكمه سلطنةٌ عربيةٌ متّحدة في عهد الجبريين، كانت هي أيضاً محور توازن، لكنّها منذ أن أُسقطت في الحملة الصليبية على الخليج العربي، لم تقم أيّ دولة مركزية عربية قوية في الساحل، باستثناء ولايات عُمان التي تنخرط اليوم في سلطنة واحدة.
والفكرة العمانية هنا تقييمهم ذلك الصراع من جهة، واستحضارهم الصراع مع العهود السعودية المختلفة، التي انتهت عسكرياً في حرب البريمي، لكنّ رياح عدم الثقة ظلت حاضرة.
لذلك ورغم تحسّن العلاقات اليوم بين مسقط والرياض، ومحاولة الأخيرة التخفيف من خسائرها، فإنّ البيان العُماني جاء بحسب الرؤية الاستراتيجية لعقل مسقط السياسي، الذي قد تكون له أخطاء بل كانت، في منح طهران مساحات توسّع في المنطقة خارج حدود عُمان القومية، لكنّ عُمان تبرّر ذلك بعدم وجود شريك عربي متوازن يُرجّح العقل على العاطفة.
ولن يُسدد العُمانيون حماقة سياسة الآخرين على حساب استراتيجية أمنهم القومي الذي عانى من حروبٍ بالوكالة في ظفار، ونزاعات داخلية حسمت في منظومة مدنية قبلية محكمة، يتفق عليها العُمانيون، وإن اختلفوا على السقف السياسي والإصلاحي.
أما قطر فقد صدر بيانها ليكون مجاملةً ضمن اتفاق العُلا، ومراعاة لفظية للتوتر السعودي. وما أعتقده أنّ منطق هذه المراعاة يشمل الكويت والإمارات.
فالبحرين فقط وهي التي يزداد هشاشة أمنها القومي، ورهانها الأحمق على تل أبيب، فهي من يلتزم بمضمون الموقف السعودي، في تصعيده على لبنان.
لقد عملت طهران على استثمار المسيحية الطائفية السياسية، منذ زمن طويل، مستغلةً انقسامات الكتل اللبنانية ذاتها، وصراعاتها الدموية والسياسية القديمة، وفشل الحركة الوطنية اللبنانية في عكس منظومة الوحدة العربية، بسبب عصبياتها الإيديولوجية وتعدّد توظيفاتها، بين الفرقاء اللبنانيين.
هذا فضلاً عن الخطايا في أعمال العنف والمراهقة السياسية التي تورّطت فيها الفصائل الفلسطينية، وحلفائها من الجسم السني العربي الكبير، أو الطوائف المختلفة، فمهد الطريق للتطرّف الطائفي الآخر السياسي والمسلح، وكان اتفاق الطائف بالفعل مخرجاً مهماً.
لكنّ الرياض عجزت، منذ فترة طويلة، عن إيجاد فضاء أوسع، لاتفاق الطائف، تتشكل حوله قوة عربية سنية، كون السُنّة، وكما يقول عزمي بشارة، هم قاعدة الأمة وحاضنة الطوائف، فهي أكبر من طائفة، تضم بقية الأقليات في مشروع فكري عربي، وليس في سوق إعلامي سياسي صاخب، يعتاش ترويجه على معارض الأزياء الجسدية والتفاهة التي كان يروّجها قرداحي تحت مطر المال السعودي، ففشل مبكراً تيار المستقبل، بوصفه كياناً عروبياً متجاوزاً للطائفة.
وكان الشيخ أحمد الأسير هو الشخصية التي خرجت بلا دعم ولا ظهير، وكان انتماؤه الأسري السني – الشيعي المشترك يمثل تلك القوة الشعبية التي قلقت منها طهران مبكّراً، وكان لديه استعداد مبكّر لتحويل خطابه إلى أفق مدني أوسع، يحتاجه لبنان ويمثل توازناً حتى مع بقاء “المستقبل”.
ولم يكن خطأ الرياض فقط في المشاركة في ذبح حركة الشيخ أحمد الأسير، بل بجملة مشاريعها المفلسة في سوق النخاسة الإعلامية التي قادتها قنوات ومؤسسات رعتها الرياض، فيما كان قرداحي وغيره تتوثق لديهم معادلة الولاء للتحالف الطائفي مع إيران، رغم أنّه كان خارج صفوف العماد ميشال عون، الذي شكّل، في حينه، قنطرة المشروع المشترك الذي أصبح عليه لبنان، وهو في هاوية العهد الإيراني.
وقد وظّف الإيرانيون خطة ومساحة شملت علماء ومساجد للسنة في نسيج ثوب الخرافة الطائفية، فيما استرسلت الرياض في كوارثها السياسية، واستخدمت، كما فعلت من قبل، لغة عنصرية تستفز الضمير الوطني الاجتماعي للبنان، بدلاً من كسبه لصفها.
وهكذا وفي كلّ مرحلةٍ ينكشف فيها الصخب السعودي، وحلفه الخليجي، يتبين للجميع أنّ طهران كسبت الجولة، بل كسبت معارك تنهار فيها الرابطة العروبية والمواطنة الأخوية التي حاولت أن تكافح ثقافة المحاصصة الطائفية في الدستور، وتختنق فيها المدنية وروح الأنسنة في الفكرة الإسلامية التي يتّحد عليها المؤمنون بالله، فأضحى لبنان مرفأً محطّماً، تتربص فيه الطرقات بالمحقق الذي أشار إلى المجرم المعلوم، ليُضم إلى الضحايا قبل أن يُحيل الجناة إلى العدالة.
* مهنا الحبيل باحث عربي مستقل، مدير المكتب الكندي للاستشارات الفكرية
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: