هل يقترب انسحاب تركيا من حلف الناتو؟
تتزايد التكهنات في العاصمة الأميركية بشأن تنامي رغبة الحكومة التركية في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، وزادت تلك التكهنات على ضوء ما تشهده أنقرة من توترات متتالية في علاقتها سواء مع واشنطن أو بروكسل، ووصول الخلافات بين تركيا وحلفائها الغربيين إلى مرحلة لا يمكن معها بقاء الأوضاع كما هي عليه.
وخلال العامين الأخيرين، برز حجم الخلاف الذي يجمع الطرفين، وظهر بوضوح في أزمة طائرات “إف-35” (F-35) التي لم تنته فصولها بعد، إضافة إلى أزمات متعلقة بسجل أنقرة تجاه قضايا حقوق الإنسان، الذي تراه واشنطن سيئا، وكان آخر موضوع في هذا السجل قضية المعارض عثمان كافالا.
واستفحل الخلاف بين تركيا وحلفائها الغربيين -وعلى رأسهم الولايات المتحدة- قبل أيام قليلة فقط من انعقاد قمة مجموعة العشرين في روما، حيث يأمل الرئيس التركي أن يجتمع مع الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة غربيين آخرين.
إذ جددت 9 دول أعضاء بحلف الناتو (كندا وفرنسا وفنلندا والدانمارك وألمانيا وهولندا والنروج والسويد والولايات المتحدة) إضافة إلى نيوزيلاندا، دعوتها إلى “تسوية عادلة وسريعة لقضية” عثمان كافالا، رجل الأعمال والناشط التركي المسجون رهن المحاكمة منذ 4 سنوات. ورد الرئيس أردوغان بالتهديد بطرد سفراء الدول العشر. وتتهم أنقرة كافالا بالسعي إلى زعزعة استقرار تركيا.
يعد عقاب واشنطن لأنقرة واستبعادها من تجمع مصنعي المقاتلات المتطورة من طراز إف-35 بسبب شراء أنقرة نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400” (S-400) نقطة التوتر الرئيسية على الصعيد العسكري بين البلدين. وقد شاركت تركيا في برنامج إنتاج المقاتلة الأميركية الأكثر تطورا عند إطلاقه، وكان يفترض أن تحصل على نحو مئة منها، لكن واشنطن استبعدتها عام 2019 من البرنامج بعد حصولها على نظام الدفاع الجوي الروسي.
وتمتلك تركيا ثاني أكبر جيش مشارك في حلف الناتو بعد الجيش الأميركي، وتعد تركيا من أهم حلفاء واشنطن التاريخيين في المنطقة.
فتاريخيا، لم تلعب أي دولة أخرى الدور المحوري الذي لعبته تركيا خلال الحرب الباردة، الذي أدى في النهاية إلى انتصار الولايات المتحدة والغرب على الاتحاد السوفياتي. ويدل ذلك على أهمية تركيا للإستراتيجية الأميركية سواء داخل حلف الناتو، أو لتأمين المصالح الغربية في أوروبا والشرق الأوسط.
وتشير دراسة دورية لخدمة أبحاث الكونغرس إلى أهمية الوجود الأميركي العسكري داخل تركيا بوصفها عضوا رئيسيا في حلف الناتو، مع التركيز على قاعدة إنجرليك في الجنوب التركي التي يوجد فيها تقليديا 2500 عسكري أميركي للقيام بمهام عسكرية في منطقة الشرق الأوسط. وتطرح دراسات أبحاث الكونغرس تساؤلا صعبا عن البدائل العملية لهذه القاعدة التي لا تؤثر على المجهود العسكري الأميركي في هذه المنطقة المضطربة من العالم.
وترى دوائر أميركية أن الانفصال عن تركيا سيكون بمثابة إيذاء ذاتي متعمد لمصالح واشنطن، فتركيا لا تقتصر على الرئيس أردوغان فحسب، بل هي عملاق جغرافي واقتصادي في المنطقة يؤدي دور الفاصل بين أوروبا والشرق الأوسط، وبين الشرق الأوسط وروسيا؛ لذلك فإن خسارة تركيا بوصفها حليفا للغرب تعني وضع الشرق الأوسط على عتبة باب أوروبا، وإلغاء الحاجز المحتمل أمام النفوذ الروسي بما يسمح لهذا الأخير بالتوغل في قلب الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، تعد تركيا دولة في أفضل وضع يؤهلها لتحقيق التوازن مع إيران التي تتعاظم طموحاتها ونفوذها بالتزامن مع شراكتها المتزايدة مع كل من روسيا والصين.
فلسفيا، تتساءل أوربا عن عضوية تركيا الدولة التي يعتبرونها “شرق أوسطية” في الأساس! إذ تساءل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مستنكرا -في مقابلة له مع مجلة “إيكونوميست” (The Economist) الشهيرة- سيناريو التدخل العسكري للدفاع عن تركيا.
واستشهد بما اتخذته تركيا والولايات المتحدة من قرارات عسكرية مهمة بمفرديهما -من دون التشاور مع شركاء حلف الناتو- في التعامل مع الملف السوري. وتحدث ماكرون بصراحة عن المادة 5 التي تلزم الدول الأعضاء بالتدخل العسكري للدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لاعتداء، وقال ماكرون مستغربا ومستنكرا: “إذا ما قام الجيش السوري أو الجهات المتحالفة معه عسكريا بالهجوم على تركيا، هل سنتدخل للدفاع عن تركيا؟!”.
تشير تقارير أميركية إلى أن الرئيس التركي أردوغان خطط للخروج من حلف الناتو منذ صيف عام 2016، وذلك عقب فشل محاولة الانقلاب العسكري ضده، إذ اعتبر أن واشنطن لم تمانع من وقوعها، بل رحبت بها. ويدرك الرئيس التركي أن بلاده لا يوجد لديها أصدقاء فعليون في العاصمة الأميركية.
ثم جاء تطور العلاقات التركية الروسية عسكريا، وهو ما ظهر في اقتناء تركيا نظام الصواريخ المتقدم للدفاع الجوي إس-400، ورغم عقوبات الكونغرس، فإن واشنطن لم تنجح، ولا عضوية الناتو، في ثني تركيا عن قرارها، ورد البنتاغون بخطوات حادة؛ إذ طرد تركيا إثر ذلك القرار من برنامج مقاتلات إف-35، وأعاد متدربين عسكريين أتراك إلى بلدهم.
ويصطدم ملف إغلاق أزمة تصنيع طائرات إف-35 بإعلان تركيا خططا للحصول على دفعة ثانية من نظام الدفاع الصاروخي الروسي، وهو ما أدى إلى تحذير جديد من الولايات المتحدة بشأن مخاطر تدهور العلاقات الثنائية.
في أعقاب زيارته نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نهاية الشهر الماضي، أعرب أردوغان عن غضبه من الرئيس الأميركي جو بايدن، وعدم ثقته في الحليف الأميركي.
ثم توجه أردوغان بعد ذلك إلى روسيا، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتم الاتفاق على تعميق التعاون الدفاعي ليشمل العمل على المحركات المقاتلة والغواصات ومحركات الصواريخ.
وعبرت تركيا كذلك عن رغبتها في شراء أحدث جيل من المقاتلات الروسية “سوخوي-35” (Sukhoi-35) إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع واشنطن. ولا يفضل العسكريون الأتراك اللجوء إلى مقاتلات روسية لأنها لن توائم ثقافة القوات الجوية التركية الغربية، ومن شأن مثل هذه الصفقة أن تضع نهاية لعضوية تركيا بحلف الناتو.
قبل 70 عاما، قال الأمين العام الأول لحلف الناتو اللورد هاستينغز إسماي إن الحلف يهدف إلى “بقاء روسيا خارج أوروبا، وأميركا داخل أوروبا، وألمانيا داخل حدودها”، ومع مرور أكثر من 70 عاما على تأسيس حلف الناتو، ومرور 30 عاما على انتهاء الحرب الباردة، يبدو أن تركيا ثاني أكبر جيوش الناتو بعد الجيش الأميركي تفكر جديا في ترك الحلف، وهو ما سيكون بداية نهاية لتحالف عسكري هو الأهم في التاريخ المعاصر.
بقلم: محمد المنشاوي ( كاتب ومحلل سياسي).
المصدر: الجزيرة نت.
موضوعات قد تهمك: