المحتويات
الجائزة الكبرى.. لماذا تسعى إسرائيل لجذب العراق إلى التطبيع؟
لم يكن الرابع والعشرون من سبتمبر/أيلول 2021 ليمر عاديا على اليهودي العراقي “جوزيف براودي”، فالناشط الذي يحمل الجنسية الأميركية، الذي أقرّ أنه بحث مع الجيش الأميركي فرص العمل في العراق عام 2003، ولم يُنكر عمله على تهريب الأختام الإسطوانية القديمة التي نُهِبَت من المتحف العراقي، حقّق ذلك اليوم إنجازا عظيما على أرض إقليم كردستان العراق. لقد تمكَّن مؤسس ورئيس “مركز اتصالات السلام”، الذي قضى عقودا في تعزيز التطبيع العربي الإسرائيلي، من حشد أكثر من 300 عراقي للمشاركة في مؤتمر عُقِد في أربيل عبَّر خلاله المشاركون عن آمالهم بتطبيع علاقات العراق مع إسرائيل.
لم يكترث براودي كثيرا باحتمالية صدور أوامر اعتقال بحق المشاركين أو تهديدات بقتلهم من طرف الجماعات المسلحة، أو حتى فقدانهم لوظائفهم، وقال الرجل: “كنا نعلم أن هذا سيُثير جدلا هائلا وردَّ فعلٍ عنيفا، ومع ذلك، فقد فعلناه لأن الناس الذين أرادوا القيام به في العراق طلبوا مساعدتنا”.
على أي حال، سجَّل المؤتمر موقفا علنيا نادرا وغير مسبوق في العراق، فبعد توقيع أربع اتفاقيات تطبيع بين العرب وإسرائيل العام الماضي، بالإضافة إلى “اتفاقيات السلام” الموجودة سابقا مع مصر والأردن، وعيش ما يقرب من نصف سكان العالم العربي في دولة تربطها علاقات دبلوماسية مفتوحة مع إسرائيل، يُدرك براودي والإسرائيليون أن الجائزة الجيوسياسية الأكبر في رحلة التطبيع ستكون هي بغداد، تلك الأرض ذات الماضي القومي والعروبي المناهض لإسرائيل، والحاضر المُلغَّم بالنفوذ الإيراني المُعادي لتل أبيب هو الآخر.
مؤتمر أربيل.. “طلقة في الظلام”
في مؤتمر أربيل، وقف براودي، وهو حفيد حاخام عراقي كبير، يتطلَّع إلى ما هو أبعد من ترتيبات المؤتمر وتفاصيله المُنمَّقة، ومشاهد عشرات العراقيين يرتدون الزي التقليدي على طاولات أحد الفنادق الفخمة. بالتحديد كان براودي ينظر إلى التأثير الذي ستُحدِثه مجموعة من رجال الدين وأساتذة الجامعات والشباب العراقيين الذين تحدَّثوا لأول مرة بصوت واضح عن تطلُّعاتهم لعراق جديد يعيش فيه الجميع بسلام مع “جيرانه”، رغم أن عراقهم ذاك لا يزال يُجرّم قانونا “الترويج للمبادئ الصهيونية” بعقوبة قد تصل إلى حد الإعدام.
ما سمَّاه براودي بـ “الدبلوماسية الاستكشافية” آتت باكورة ثمارها في هذا المؤتمر النوعي بعد أن قام مُمثِّل مركز اتصالات السلام -المذكور آنفا- بتيسير حملة توعية في العراق ارتكزت على الترويج لوجود مسارين مختلفين للمنطقة، أولهما مسار “اتفاقيات إبراهيم”، الذي يفتح باب العيش بسلام وأمان في المنطقة، وثانيهما رفض التطبيع، ما يعني استمرار الصراع وانعدام الاستقرار كما هو حال بلدان مثل لبنان وسوريا.
يُمكننا النظر إلى نموذج الشيخ “وسام الحردان”، الذي يخضع الآن للحماية في كردستان بعد تهديدات وصلت إلى المشاركين في المؤتمر. كان الحردان أحد المشاركين الرئيسيين في الفعالية التطبيعية، وساهم مع نظرائه في حشد المواطنين للمشاركة في سبع محافظات، وهي بغداد ونينوى وبابل وصلاح الدين وديالى والأنبار، وإقناعهم بالانضمام إلى المسار الأول الذي يُروِّج له براودي.
لم يكتفِ الحردان بنشر مقال في صحيفة “وول ستريت جورنال” صبيحة يوم المؤتمر يدعو فيه إلى التطبيع مع إسرائيل ويُشيد بالإمارات لفعلها ذلك، بل إنه قال في خطابه الرئيس أمام المؤتمر إن “على العراق الاعتراف بإسرائيل، قبل أن يُصبح مثل لبنان الذي ابتلعته الميليشيات بالكامل”، في إشارة ضمنية إلى الجماعات المدعومة من إيران والمُعادية لإسرائيل. بعده، توجَّهت “سحر الطائي”، الباحثة الأولى في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، بكلمة إلى المشاركين قائلة: “من الضروري والحتمي، من أجل السلام الإقليمي، الاعتراف بإسرائيل دولة صديقة.. (نحن) نريد السلام مع إسرائيل”.
في المُحصِّلة، يُمثّل ما خرج من جعبة المشاركين في مؤتمر أربيل إنجازا كبيرا لجماعات الضغط والمؤسسات البحثية التي تُناصر إسرائيل داخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى كونه إنجازا لإسرائيل ذاتها التي لم تحلُم بمؤتمر مُشابه منذ سنوات. لقد اعتقد هؤلاء أن الوقت مناسب لتقديم “السلام مع إسرائيل” بديلا للهيمنة الإيرانية على العراق، لا سيما بالتزامن مع محاولات بغداد الفكاك من النفوذ الإيراني واستعادة علاقاتها بالدول العربية. هذا واستغل القائمون على المؤتمر حالة الخلط بين وجود جمهور عراقي يدعم استعادة يهود العراق لحقوقهم وجمهور آخر أقل حجما وأكثر إثارة للجدل يريد التطبيع مع إسرائيل.
أظهر مؤتمر أربيل الكثير من الآمال الكامنة في نفوس الإسرائيليين بشأن العراق وانتزاع التطبيع الغالي منه، فقد غرّد رئيس الوزراء الإسرائيلي “نافتالي بينيت” بعد المؤتمر مباشرة قائلا إن “مئات الشخصيات العامة العراقية، من السُّنة والشيعة، اجتمعوا أمس للدعوة إلى لسلام مع إسرائيل. هذه دعوة تأتي من أسفل لا من أعلى، من الشعب لا الحكومة.. الاعتراف بالظلم التاريخي الذي تعرَّض له يهود العراق مهم بشكل خاص.. دولة إسرائيل تمد يدها بالسلام”. كما صرّح وزير الخارجية “يائير لابيد” عقب المؤتمر بأن “الحدث في العراق مصدر أمل وتفاؤل، فإسرائيل تبحث دائما عن طرق لتوسيع دائرة السلام”.
تحت الرادار.. علاقات بين إسرائيل وعراقيين
منذ إعلان إسرائيل قيام دولتها عام 1948، سارع العراق إلى القطيعة معها، فيما تعرّض اليهود العراقيون لضغوط من قِبَل حكومتهم للتخلي عن الجنسية ومغادرة البلاد. ولم ينسَ الإسرائيليون ما فعله العراق على مدار تاريخه، فقد أرسل قواته لمحاربة دولة الاحتلال عام 1948 وعام 1967، كما أطلق نظام صدام حسين في أوائل عام 1991 (حرب الخليج) 43 صاروخ “سكود” على مناطق عدة في إسرائيل أهمها تل أبيب.
بيد أن العلاقة مع إقليم كردستان على وجه الخصوص طالما جذبت الإسرائيليين، اعتقادا منهم بأن الأكراد، باعتبارهم ليسوا عربا، من الممكن أن يجتمعوا معهم على مصلحة مشتركة. لكن ذلك لم يتحقَّق إلا عبر مجموعة صغيرة من اليهود الأكراد الذين هاجروا من العراق إلى الأراضي المحتلة، وحاولوا مرارا الاتصال بوطنهم الأصلي، ليُشكِّلوا حلقة وصل مهمة على مدار السنوات الماضية، غير أن الأمر لم يتجاوز أبدا حد التواصل الشخصي والعائلي المباشر طوال بقاء صدام حسين في السلطة، رغم ما أبداه الإسرائيليون من دعم (دون مقابل) للقضية الكُردية، آملين أن يحصلوا على مقابل يوما ما.
بعد الغزو الأمريكي للعراق، بدأ التودُّد الإسرائيلي يؤتي أُكله. ففي زمن ولَّت فيه الحروب العربية-الإسرائيلية الكبرى، وأضحى الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، وصارت دولة الاحتلال نفسها قطبا عسكريا واستخباراتيا محوريا في المنطقة، أقدمت حكومة إقليم كردستان العراق -المُتمتِّع بالحُكم الذاتي- على التعاون المحدود من أجل حيازة تلك المزايا. على سبيل المثال، أعلنت إسرائيل عام 2015 استيراد 19 مليون برميل نفط سنويا من الإقليم رغم الخلافات المعروفة بين كردستان العراق وبغداد حيال التصدير المنفرد للنفط الكردي. علاوة على ذلك، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك “نتنياهو” دعم الإقليم في محاولته الانفصال عبر استفتاء عام 2017. ورغم أن كردستان في المقابل استفادت بعض عوائد النفط وبعض الخبرات العسكرية الإسرائيلية في تدريب البشمركة، فإنها لم تُبادِل تل أبيب ودا مفتوحا، وظلَّت ملتزمة بالخطوط الحمراء العربية والعراقية في هذا الصدد.
لكن إسرائيل لم تَكفَّ أبدا عن المحاولة. وفي مايو/أيار 2018، أنشأت دولة الاحتلال صفحة على فيسبوك باسم “إسرائيل باللهجة العراقية”، بهدف “خلق تواصل وحوار مُثمر بين الشعبين الإسرائيلي والعراقي وإظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل”. كما شطبت إسرائيل العراق عام 2019 من قائمة “الدول العدوة” التي تشمل لبنان وسوريا والسعودية واليمن وإيران، ووقَّعت مرسوما يُجيز التبادل التجاري مع بغداد.
ثم بدأت الجهود الإسرائيلية نحو التقارب مع العراق تؤتي ثمارها في يناير/كانون الثاني 2019، حين كشفت النقاب عن زيارات سرية قامت بها ثلاثة وفود عراقية إلى تل أبيب مكونة من 15 شخصية سياسية ودينية التقوا مسؤولين حكوميين وأكاديميين إسرائيليين، وزاروا النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست. وقد وصلت الأمور إلى حدٍّ غير مسبوق مع خروج تصريحات لـ”فريد ياسين” السفير العراقي في واشنطن في أثناء ندوة عُقدت بمركز “الحوار للثقافة العربية والحوار” قال فيها إن “هناك أسبابا موضوعية قد تدعو إلى إقامة علاقات بين العراق وإسرائيل”، هذا وواجه ياسين ردَّ فعلٍ عنيفا من زملائه من المسؤولين العراقيين.
على صعيد آخر، ظهر “مثال الألوسي”، زعيم حزب الأمة العلماني العراقي، بوصفه واحدا من أهم دعاة التطبيع مع إسرائيل. وقد كان الألوسي في الدورة الأولى لزيارات التطبيع العراقية مع دولة الاحتلال، إذ قال النائب السابق في البرلمان العراقي عقب توقيع اتفاق تطبيع الإمارات مع إسرائيل إن “العراق بحاجة إلى الخروج من معسكر الحروب والتطرُّف، والتخلُّص من الهيمنة الإيرانية وتلاعبها بالأحزاب الدينية الشيعية، وإن ذلك سيصب في مصلحة العراق ويُثبِّت الاستقرار الأمني، ويُطوِّر التعاون السياسي بين العراق وأغلب دول العالم في حال حدث التطبيع مع إسرائيل”.
واشنطن تبارك تطبيع العراق
“ستعمل الولايات المتحدة على دعم اتفاقات إبراهيم وتوسيعها”، هذا ما قاله وزير الخارجية “أنطوني بلينكن” في اليوم نفسه الذي عُقد فيه مؤتمر أربيل بالعراق. بطبيعة الحال، ترى واشنطن في توسيع رُقعة الاعتراف الإقليمي بإسرائيل تحقيقا لأهداف إستراتيجية مهمة وقديمة، أهمها تشكيل تحالف إقليمي يساعد في عزل إيران.
يعتمد الساعون إلى التطبيع بين العراق وإسرائيل على حاجة بغداد إلى استثمارات وأموال لتعويض الانخفاض الحاد في عائدات النفط وتعزيز الاستثمارات في بلد مُنهَك اقتصاديا منذ سنوات، فالعراق من جهة يُعاني من نقص السيولة، ومن جهة أخرى ترتفع فيه نِسَب البطالة إلى 36%، فيما يعيش ثلث الشعب العراقي تحت خط الفقر. كل تلك الأسباب دفعت الشباب العراقي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى الخروج والتنديد بحال الاقتصاد المُزري والفساد المُستشري، وهي تطورات تُغري البعض للاعتقاد أن التطبيع مع إسرائيل سيجلب منافع اقتصادية من إسرائيل وواشنطن والخليج، ويساعد في تقليص الدور الإيراني من جهة أخرى، والأخير يُعَدُّ هدفا رئيسيا على أجندة الحكومة العراقية الحالية.
ورغم ذلك، يعتقد “إياد الدليمي”، الكاتب والمحلل السياسي العراقي، أن العراق غير مُهيَّأ للإقدام على خطوة التطبيع مع إسرائيل، ويرجع ذلك إلى حاجة البلاد إلى نظام سياسي واضح ومستقر ومستقل عن النفوذ الإقليمي (لا سيما الإيراني)، حيث يقول: “البلد بحاجة إلى نظام سياسي قادر على اتخاذ خطوة كهذه، هناك اليوم في العراق عدة قوى مُتحكِّمة بقراره السياسي والسيادي، وهذه القوى متقاطعة ومتنافرة وفي بعض الأحيان متقاتلة، ولن يتفق جميعها على خطوة مثل التطبيع.. من هنا فإن خطوة التطبيع لا تبدو منطقية أو قريبة، وحتى المؤتمر اللقيط الذي عُقد في أربيل تبرَّأ منه الجميع، وهو بتقديري كان عملية جس نبض للشارع العراقي والقوى المُتحكِّمة به، وهي قوى أعلنت أنها ضد التطبيع”.
حسب الدليمي، فإن المحاسن الوحيدة لمؤتمر أربيل هي ما أظهره من رفض شعبي عراقي عارم لمثل هذه الخطوة، وذلك رغم كل ما يُعانيه المواطن العراقي من بؤس وشقاء وتردٍّ في مجمل أوضاعه المعيشية، ورغم كل ما قيل ويقال عن إن التطبيع مع دولة الاحتلال قد يسهم في تحسُّن واقع المواطن العراقي، ورغم سأم الكثيرين من التدخُّلات الإيرانية بشكل لعله صوَّر للبعض أن مغازلة إسرائيل قد تُقبَل على مضض من أجل الابتعاد عن طهران.
بيد أن ذلك لم يحدث، وأثبتت الضجة التي تلت مؤتمر أربيل أن ثوابت العراق القومية لن تُمَسَّ بسهولة، من جهة السُّنة أو الشيعة على السواء، وأن التعاون بين كردستان العراق وإسرائيل مُقيَّد برغبة أربيل نفسها في الاستفادة المحدودة، لا سيما أنها تُحقِّق بالفعل استفادة أكبر من علاقاتها مع أطراف إقليمية مثل إيران وتركيا والخليج وأوروبا، ومن ثمَّ يصبح التطبيع الكردي-الإسرائيلي المفتوح عبئا وضوضاء لا معنى لها.
في نهاية المطاف، لا يزال التطبيع من المُحرَّمات سياسيا واجتماعيا في العراق، حتى مع وجود رغبة فيه لدى قطاعات محدودة من أبناء نظام ما بعد 2003. وفي المقابل، يُدرك الجميع الآن أن إعادة تعريف العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية الكبرى بالنسبة لبغداد وأربيل على السواء هو المفتاح الحقيقي لتدشين منظومة سياسية واقتصادية مستقرة ومزدهرة، وليس مغازلة إسرائيل.
بقلم: ميرفت عوف (صحفية فلسطينية)
المصدر: الجزيرة نت
موضوعات قد تهمك: