المحتويات
وسائل الإعلام وبناء القوة الناعمة في إفريقيا
تستثمر الدول الغربية كثيرا من الأموال في بناء قوتها الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.
وهذه الوسائل الإعلامية الموجهة إلى الشعوب في الدول الأجنبية تسهم في إدارة حضور الدولة على المستوى العالمي.
لذلك تركز الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا على التأثير في شعوب الدول النامية باستخدام الشبكات الإذاعية والتليفزيونية لتحقيق أهداف سياساتها الخارجية، وبناء قوتها الناعمة.
ورغم ادعاءات هذه الشبكات بأنها تلتزم بالموضوعية والحياد والتوازن، فإن تحليل مضمونها يثبت ارتباطها بالسياسة الخارجية لدولها، وأنها أداة لتحقيق أهداف هذه السياسة.
الدبلوماسية الإعلامية
ودراسة هذه الشبكات يمكن أن تسهم في تطوير علم الدبلوماسية الإعلامية باعتباره مجالا جديدا يرتبط بعلم الدبلوماسية العامة، لكنه يمكن أن يقوم على مناهج ونظريات جديدة تتناسب مع تحديات القرن الـ21.
وقد ارتبط ذلك العلم بظهور مفاهيم جديدة، مثل “السياسة الخارجية الموجهة بوسائل الإعلام”، أو التي تقودها هذه الوسائل، حيث تزايد استخدام هذه المفاهيم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية وحدها على النظام العالمي.
وتوضح تغطية وسائل الإعلام للعدوان الأميركي على العراق أن أميركا تمكنت من التحكم في التغطية، ومنع إذاعة مشاهد المعاناة الإنسانية والمذابح والفظائع التي ارتكبتها قواتها حتى لا يتكرر سيناريو حرب فيتنام، وأدى ذلك إلى طرح سؤال على الباحثين والإعلاميين، وهو ما العلاقة بين الدولة ووسائل الإعلام، وهل أصبحت وسائل الإعلام أداة في يد الحكومات تستخدمها في تحقيق أهداف سياستها الخارجية؟
الاحتكار وسيطرة الشركات العابرة للقارات
كان من الواضح أن الشركات العابرة للقارات -التي سيطرت على صناعة الإعلام والاتصال- قد تحالفت مع الحكومات الغربية للسيطرة على الاقتصاد العالمي، واستخدمت هذه الشركات الإمبراطوريات الإعلامية لفرض السيطرة الأميركية على العالم، وإخضاع شعوب العالم لأميركا عن طريق التصوير المبالغ فيه للقوة الأميركية، وتقديم أميركا للشعوب باعتبارها القوة التي تحمي الديمقراطية والأمن والاستقرار العالمي.
وشكل ذلك تحولا في تاريخ الصحافة والإعلام في أميركا وأوروبا أدى إلى زيادة تحيز وسائل الإعلام الغربية لأميركا وسياستها، والعمل لتحقيق المصالح القومية، وتبرير العدوان الأميركي على الشعوب، والدفاع عن أميركا وإدارتها للصراعات العالمية.
ودراسة مضمون وسائل الإعلام الغربية توضح أنها استخدمت الدعاية القائمة على الخداع والتزييف لتبرير العدوان على العراق، والترويج لفكرة أن أميركا تحمي العالم من امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن يستخدمها صدام حسين.
أدى كل ذلك لتشويه صورة الدبلوماسية الإعلامية، وربطها بالدعاية التي تستهدف شيطنة العدو، وتبرير الجرائم الأميركية، وتبني وسائل الإعلام لخطاب السلطة، واستخدامها لتحقيق المصالح القومية.
تغيير السياسة الإعلامية
لذلك توضح دراسة مضمون وسائل الإعلام الغربية أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 شكلت تغييرا مهما في السياسة الإعلامية وبناء وظائف جديدة لوسائل الإعلام، من أهمها بناء قوة الدولة الناعمة وصورتها الذهنية، وتبرير سياستها الخارجية، والتأثير على الشعوب لتحقيق أهداف هذه السياسة، وتحقيق المصالح القومية طبقا للتصور الذي تضعه السلطة لهذه المصالح.
وهذا التغيير لم يقتصر على الولايات المتحدة فحسب، بل اعترف فلاديمير بوتين أيضا بأن إنشاء شبكة “روسيا اليوم” عام 2005 جاء لكسر الاحتكار الأنجلوساكسوني لتدفق المعلومات في العالم، وأن الهدف من إنشائها تحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية، وأنها تم استخدامها أداة للدعاية لروسيا خلال الأزمة الأوكرانية، وأنها تمكنت من التأثير في شعوب أوروبا الشرقية لصالح روسيا.
ولقد كان من الواضح أن القرن الـ21 شهد تزايد استخدام الدول لوسائل الإعلام في الدبلوماسية الإعلامية، والتأثير في الشعوب لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وبذلك تزايدت قوة العلاقة بين الدولة ووسائل الإعلام في أميركا وأوروبا.
إن أميركا وأوروبا استخدمتا وسائل الإعلام -خاصة الشبكات الإذاعية والتليفزيونية- للتأثير في الشعوب الأفريقية، ونتيجة لضعف وسائل الإعلام الأفريقية والسيطرة المباشرة للسلطات عليها، فإن اعتماد الشعوب الأفريقية على الشبكات الإذاعية والتلفزيونية الغربية للحصول على الأخبار والمعلومات أدى إلى زيادة تأثير هذه الوسائل على الشعوب.
وفي كثير من الحالات، قامت هذه الوسائل بدورها في صنع الأحداث في القارة الأفريقية مثل “فصل جنوب السودان” الذي يعتمد شعبه بشكل مكثف على الشبكات الإذاعية والتليفزيونية الأميركية والأوروبية.
وتوضح حالة جنوب السودان كيف استخدمت الدول الغربية هذه الشبكات لدفع الشعب إلى الانفصال، وهو هدف عملت القوى الاستعمارية طوال القرن الـ20 على تحقيقه باستخدام إستراتيجية اعتمدت على استخدام وسائل الإعلام.
وكان من أهم الوسائل التي استخدمتها الحكومات الغربية إخفاء المعلومات عن فساد قادة الانفصال في جنوب السودان، إذ أمرت بشكل مباشر الشبكات الإذاعية والتلفزيونية التابعة لها بعدم إذاعة هذه المعلومات. ومن الواضح أن هذا الأسلوب تم استخدامه في كثير من الأحداث في دول أفريقية، طبقا لمدى التزام حكوماتها بالتبعية لأميركا وأوروبا، حيث تم التعتيم على فساد قادة هذه الدول، وانتهاكهم لحقوق الإنسان، والفظائع التي ارتكبوها في حق شعوبهم.
لذلك، فرض الصحفيون في الشبكات الإذاعية والتليفزيونية الغربية الرقابة على أنفسهم حتى لا يتم نشر أي معلومات تقلل من قدرة الدول الغربية على تحقيق أهداف سياساتها الخارجية.
هذا يمكن أن يسهم في تفسير عدم اهتمام وسائل الإعلام الغربية بكثير من الأحداث مثل فض اعتصام رابعة، وانتهاك حقوق الإنسان في كثير من الدول.
لكن هل جاء اتجاه وسائل الإعلام الغربية للالتزام بأهداف السياسة الخارجية لدولها باختيارها الطوعي، أم أن هذه الشبكات خضعت لنوع من التقييد والرقابة للقيام بدورها في تنفيذ السياسة الحكومية طبقا لإستراتيجية إعلامية طويلة المدى للتأثير على الشعوب، وإخضاعها للرأسمالية والسيطرة الأميركية، ومساندة السلطات الاستبدادية التابعة لأميركا؟!
هذه الأسئلة يمكن أن تفتح مجالا واسعا لفهم العلاقة بين وسائل الإعلام والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
التأثير على وسائل الإعلام المحلية
لكن أميركا وأوروبا لم تكتفيا باستخدام شبكاتهما الإذاعية والتليفزيونية للتأثير على الشعوب الأفريقية، إذ أثرتا أيضا على وسائل الإعلام الأفريقية باستخدام وسائل مختلفة من أهمها الإعلانات، عن طريق توفير الشركات العابرة للقارات الإعلانات لوسائل الإعلام المحلية التي تؤيد السياسات الخارجية للدول الغربية وتحقق أهدافها، وهناك كثير من الأدلة على استخدام الإعلانات لتحقيق أهداف سياسية، ونشر الدعاية الغربية، وإخضاع الشعوب للسيطرة الأميركية، ومنع نشر المعلومات التي يمكن أن تضر السياسة الأميركية الأوروبية والنظم الاستبدادية التابعة لها.
كما أن الدول الغربية تعمل للتأثير على الصحفيين الأفارقة للعمل لصالح هذه الدول، وتبني سياستها، ويظهر ذلك واضحا في جنوب السودان وإثيوبيا ونيجيريا، ويتم ذلك عن طريق استضافة الصحفيين في دورات تدريبية، وفتح المجال أمامهم للإنتاج الإعلامي وتغطية الأحداث وتسهيل عملهم واستضافتهم في الشبكات الإذاعية والتليفزيونية الغربية للحديث عن موضوعات مختلفة، وهذا يوفر لهم الشهرة، وإمكانيات الحصول على فرص للعمل.
كما يقوم الصحفيون الأفارقة بتقليد الأساليب الصحفية التي تستخدمها الشبكات الإذاعية والتليفزيونية الغربية في تغطية الأخبار وتحريرها، وبالتالي يتم التركيز على الأحداث التي تهتم بها هذه الشبكات، وهذا يؤدي إلى زيادة التبعية الإعلامية لأميركا وأوروبا. وأدى ذلك إلى ضعف الصحافة ووسائل الإعلام الأفريقية، وتناقص مصداقيتها.
لذلك، فإننا نطرح سؤالا مهما على كل الإعلاميين في دول الجنوب الفقيرة، كيف نبدأ مرحلة جديدة من الكفاح لتحرير دولنا من التبعية الإعلامية للغرب، وبناء نظم إعلامية وطنية توفر للجماهير المعرفة، وتقودها لتحقيق الاستقلال الشامل؟
بقلم: سليمان صالح (أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة)
المصدر: الجزيرة نت
موضوعات قد تهمك: