انسحاب أميركا من أفغانستان وفق الاتفاق الذي كانت أبرمته طالبان مع إدارة ترامب وأقرته إدارة بايدن قد جعل واشنطن تحتاج تركيا.
تصريحات أردوغان السلبية تجاه أميركا تعبير عن الانزعاج من الإصرار الأميركي على المواقف السابقة وعدم إبداء المرونة في أي من الملفات.
استمرت إدارة بايدن في نهج ترامب إزاء صفقة “أس-400” الروسية التي اشترتها أنقرة واستبعدتها من مشروع “أف-35” ولوّحت بعقوبات إضافية.
لم يلتق أردوغان بايدن في اجتماعات الأمم المتحدة واختلف المراقبون بين من عدَّه مؤشرًا على توتر العلاقات أو عدم رغبة بايدن في عقد لقاءات مع أي رؤساء لكن تواتر التصريحات التركية السلبية لا تخفى دلالاته.
* * *
بعد أشهر من علاقات أقل توترا وأكثر دفئا بين أنقرة وواشنطن، أثارت تصريحات أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة- علامات استفهام حول مستقبل العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة، لما تضمنته من انتقادات حادة ومباشرة للأخيرة وما عبرت عنه من انزعاج تركي من بعض المواقف الأميركية حيالها.
توتر وتأرجح
منذ نهاية الحرب الباردة والعلاقات بين الحليفين وعضوَي حلف “الناتو” (NATO) متأرجحة بشكل كبير، وذلك ضمن عملية موسعة لإعادة تقييم الرؤية والوظيفة بالنسبة للحلف ككل وكذلك لأهمية تركيا ودورها المفترض في المستقبل، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتراجع أهميتها بالنسبة للغرب في هذا السياق.
وقد استمرت العلاقات ما بين صعود وهبوط حتى مع حزب العدالة والتنمية، فأتى غزو العراق عام 2003 ورفض البرلمان التركي السماح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي التركية مع بدايات الحزب، ثم تحدث أوباما للعالم الإسلامي من تحت قبة البرلمان نفسه في 2009 مزكّيا ما سماه “النموذج التركي” مع العدالة والتنمية.
ومع الثورة السورية وتداعياتها اللاحقة، عادت الفجوة بين الجانبين لتتسع كثيرا، على هامش الدعم الأميركي المستمر والمتزايد لـ”وحدات حماية الشعب” التي تحولت لاحقا لـ”قوات سوريا الديمقراطية” من باب أنها حليف محلي موثوق للولايات المتحدة في مكافحة “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية)، بينما تعدُّها أنقرة منظمة انفصالية وواجهة سورية لحزب العمال الكردستاني.
وبعد عهد الرئيس السابق دونالد ترامب المتأرجح بين العلاقات الشخصية مع أردوغان والتي كانت كفيلة بتجاوز البلدين مطبات صعبة في بعض المراحل وبين وصول العلاقات إلى محطة العقوبات المباشرة من واشنطن على أنقرة، أتى عهد الديمقراطيين مع جو بايدن ليزيد من مخاوف تركيا، إذ كان قد استبق عهده بتصريحات طالت أردوغان وتركيا على حد سواء.
تأثير أفغانستان
استمرت إدارة بايدن في نفس نهج سلفه ترامب، مندّدة بصفقة “أس-400” الروسية التي اشترتها أنقرة، ومستبعدة الأخيرة من مشروع مقاتلات “أف-35” وملوّحة بعقوبات إضافية، لكن أزمة أفغانستان كبحت جماح هذا المسار فيما يبدو.
ذلك أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وفق الاتفاق الذي كانت أبرمته طالبان مع إدارة ترامب وأقرته إدارة بايدن قد جعل واشنطن تحتاج أنقرة، بعدّها الطرف الأجدى والأجدر أن يبقى في كابل لإدارة وتأمين مطارها الدولي وبالتالي استمرار دور الناتو ونفوذه بشكل غير مباشر، وهو ما ردّت عليه أنقرة بالإيجاب كاستعداد مبدئي إن توفرت له الشروط اللازمة.
وبالفعل، فقد مر اللقاء الذي جمع أردوغان وبايدن -على هامش قمة الناتو في يونيو/حزيران الماضي- سلسا ودون أزمات إضافية، ثم مرت الأشهر الثلاثة التي تلته بنفس الطريقة، مع إشارات بتغير اللهجة الأميركية تجاه أنقرة، والإشادة بالأدوار التي لعبتها وتلعبها في أفغانستان وغيرها، بل ومع الامتناع عن التنديد بعملياتها ضد قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا في دلالة لا تخفى. لكن شيئا جوهريا في العلاقات بين الجانبين لم يتغير.
فلم تقدم الولايات المتحدة موقفا مختلفا من صفقة “أس-400″، ولا تعاطت بإيجابية مع المقترحات التركية بخصوصها ومن بينها تشكيل لجنة مشتركة لتقييم تأثيراتها المحتملة على الأسلحة الأميركية، ولا تراجعت عن قرارها بخصوص مشاركة تركيا في مشروع “أف-35″، ولا تبدل الموقف الأميركي من أزمة شرق المتوسط.
ويبدو أن التطورات المتسارعة في الملف الأفغاني -حيث اضطرت تركيا لسحب قواتها هي أيضا من كابل والتخلي مرحليا عن فكرة البقاء لإدارة المطار بانتظار اتفاق ما مع طالبان، وهو ما يعني دورا تركيا بالتنسيق مع الحركة لا مع واشنطن-قد أعادت عقارب الساعة لما قبل لقاء أردوغان بايدن والاتفاق بخصوص المطار.
العودة للتوتر
انعكس كل ذلك على تصريحات الرئيس التركي خلال مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل وفي مقابلات له مع وسائل الإعلام الأميركية.
فقد كرر أردوغان انتقاده لما سماه “الدعم الأميركي فوق المتوقع للمنظمات الإرهابية” ومدها بالسلاح. وفي مقابلة مع قناة “سي بي إس” (CBS) الأميركية، أجاب بالإيجاب عن سؤال حول نية بلاده شراء منظومات إضافية من “إس-400” الروسية، مضيفا “نحن من يقرر ماذا سنشتري، ومن أي دولة، وبأي مستوى، وليس لأحد أن يتدخل في ذلك”.
وقد أكد الرئيس التركي هذا المعنى في لقاء له مع الصحفيين بعد العودة من الولايات المتحدة، قائلا إن “المسار الحالي للعلاقات بين تركيا والولايات المتحدة كحليفين في الناتو لا يبشر بخير”، مؤكدا “لا أستطيع القول إننا بدأنا بشكل جيد مع بايدن” بخلاف رؤساء سابقين منهم بوش الابن وأوباما.
وفيما يتعلق بالطلبات المقدمة لبلاده لاستضافة اللاجئين الأفغان لمنعهم من التوجه نحو أوروبا، قال أردوغان -بلقاء مع صحفيين في “البيت التركي” الذي افتتحه مقابل مبنى الأمم المتحدة في نيويورك خلال الزيارة- إن “أميركا هي من عليها دفع الثمن هنا”، وإنه من غير المتصور أن تفتح تركيا أبوابها وتستقبلهم.
لم يلتق أردوغان بنظيره الأميركي في هذه الزيارة، وهو ما اختلف المراقبون في تفسيره، بين من عدَّه مؤشرا على توتر العلاقات ومن ردّه لعدم رغبة بايدن في عقد لقاءات مع أي من الرؤساء والمسؤولين (ربما باستثناء بوريس جونسون)، لكن تواتر التصريحات التركية ومناخها السلبي مما لا تخفى دلالاته.
ويمكن ربط تصريحات أردوغان السلبية تجاه الولايات المتحدة بسببين رئيسين:
الأول التعبير عن الانزعاج من الإصرار الأميركي على المواقف السابقة وعدم إبداء المرونة في أي من الملفات، رغم ما قدمته أنقرة خلال الفترة السابقة من خطاب وتوجهات ومواقف، وبالتالي يئست الأخيرة من إمكانية إحداث اختراق في العلاقات مع واشنطن.
الثاني هو القمة التي جرت -أمس الأربعاء- بين أردوغان وبوتين في سوتشي، وبذلك تكون انتقادات أردوغان لإدارة بايدن -وحديثه عن صفقة إضافية محتملة من “أس-400” وإمكانية التفكير -ضمنا- بمقاتلات “سوخوي” كبديل عن مقاتلات “إف-35”- استثمارا تركيا لإنجاح القمة وتمتين العلاقات مع موسكو، خصوصا أنها شهدت مؤخرا تراجعات غير معلنة.
فقد تراجعت وتيرة اللقاءات وحتى التواصل بين الرئيسين في الفترة السابقة، وحلت مكانها الأخبار المتواترة عن قصف روسي في مناطق السيطرة التركية في شمال سوريا، إدلب وعفرين ومناطق درع الفرات، وعن جهد روسي لاستقطاب قوات سوريا الديمقراطية وغير ذلك من المؤشرات السلبية.
وعليه، يبدو أن المساعي التركية لترطيب الأجواء مع واشنطن على مدى الأشهر السابقة قد وصلت لطريق مسدود، وأن أنقرة لا ترغب في الاستمرار بها بلا طائل، وإنما ستحاول إعادة الدفء للعلاقات الفاترة مؤخرا مع روسيا، لتجنب سيناريوهات غير مفضّلة في شمال سوريا، وزيادة الضغط على الولايات المتحدة بالإشارة إلى أن إصرارها على تجاهل تركيا سيدفعها لمزيد من التقارب مع روسيا، وهو الأمر الذي يفترض أنها تقوم بكل ما تقوم به لتقنع تركيا بالعودة عنه.
* د. سعيد الحاج كاتب وباحث في الشأن التركي
المصدر| الجزيرة نت
موضوعات تهمك: