لكل ثورة تناقضاتها، فالثورة الفرنسية التى يُضرب بها المثل على أنها أم الثورات بدأت تناقضاتها بعد أن قامت. وعادت الرجعية إليها والملكية فى شخص نابليون الثالث حنينا إلى نابليون الأول. والثورة الأمريكية ضد بريطانيا من أجل الاستقلال وتمثال الحرية تحولت إلى نظام استعمارى يسيطر على الشعوب بالغزو مثل فيتنام وأفغانستان والعراق ونيكاراجوا أم بالأحلاف مثل منطقة الخليج وبنما. والثورة الروسية، بعدما نجحت بقيادة لينين وتروتسكى وانتصرت الثورة، تحولت إلى دولة، وعادت كل مَن نادى بأن الثورة مستمرة مثل تروتسكى، لأن الثورة الاشتراكية ليست فى روسيا وحدها بل فى العالم كله.
واغتالت الدولة تروتسكى مهاجرا إلى المكسيك. والأقرب إلينا ثورة 23 يوليو 1952 بعد أن نادت بالمبادئ الستة: القضاء على الاستعمار، والملكية، والإقطاع، والرأسمالية، وتكوين جيش وطنى قوى، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وطبقت ذلك بالفعل فى التحول إلى النظام الجمهورى والإصلاح الزراعى، والتأميم، والتمصير، والتصنيع، ومجابهة الاستعمار، ومساعدة كل حركات التحرر الوطنى، وإقامة كتلة عدم الانحياز مع الهند ويوغوسلافيا، ثم انقلبت إلى ضدها فى التعاون مع الاستعمار، والانفتاح الاقتصادى، فالرأسمالية ليست جريمة، وبعد أن جددت الثورة شبابها فى الثورة الشعبية الكبرى فى يناير 2011 انقلبت تدريجيا إلى ثورة مضادة بين الإسلاميين والعسكريين، وبدأت تتطلع إلى ثورة الغلابة والجياع.
اقرأ/ي أيضا: بين الزرقاوي و3 أجهزة استخباراتية.. كيف تنتج الوحشية؟
وكان نتيجة لذلك أن ظهرت تناقضات الزمن القبيح، فبعد أن كان الرأى العام العالمى كله فى أوروبا وأمريكا خاصة مناصراً لدولة إسرائيل الصغيرة، وطنا قوميا لليهود بعد المحرقة النازية، ومعادياً للإرهابيين الفلسطينيين، تحول الآن لصالح الفلسطينيين، بعد مشاهدة ما فعلته إسرائيل فى الاستيطان بالأراضى المحتلة، وقتل الأطفال والشباب والنساء والشيوخ، ودليل آخر على هذا التحول هو بيان اليونسكو لإدانة الاستيطان وتغيير معالم القدس العربية، والذى حظى بتأييد معظم الأعضاء، ودليل ثالث هو خطاب مندوبة كوبا فى مجلس الأمن، والذى يدين إسرائيل لما تفعله فى الأراضى المحتلة ومقابلته بالتصفيق الحاد من معظم الأعضاء، ودليل رابع هو تقديم ماليزيا وإندونيسيا مشروعا فى الأمم المتحدة والموافقة عليه بالإجماع، بعد أن ترددت مصر فى تقديمه بحجة السلام مع إسرائيل، وموافقتها على بيان الآخرين دون أن تكون المبادرة منها.
ومازالت الدول الإسلامية باقية على عهدها فى مناصرة الفلسطينيين مثل تركيا وإيران، ما يقوى حركات الجهاد الإسلامى مثل حماس، بالرغم من بيانها الأخير. وفى نفس الوقت تحول الرأى العام العربى من مناصرة الفلسطينيين وتركهم فرادى فى انتفاضتيهم الأولى والثانية ومقاومتهم احتلال إسرائيل المسجد الأقصى إلى ضرورة السلام معها، وأن تكون جزءا من الحلف العربى الإسلامى الأمريكى الإسرائيلى، وطرفا فاعلا فى الشرق الأوسط الجديد، بعد تفتيت العرب إلى دويلات طائفية وعرقية وقبلية. وتتحول إسرائيل إلى مركز تحديث للوطن العربى بدلا من مصر. ويتم استيراد العلم والتكنولوجيا، بل الماء والغذاء والنفط منها. والعرب هم المنتجون للنفط وأصحاب الأرض ومياه دجلة والفرات والنيل.
وفى اتفاقية رسم الحدود بين مصر والسعودية الأخيرة، ضمنت إسرائيل حرية الملاحة إلى الأبد، بعد أن حارب عبدالناصر من أجل بسط سيادة مصر على جزر خليج العقبة، بل إننا دمرنا الاتفاق الذى بيننا وبين غزة، التى كانت تمد المقاومة الفلسطينية بالسلاح، خوفا من أن يكون الإمداد العسكرى بالعكس، من غزة إلى سيناء، للجماعات الإسلامية المسلحة، وإقامة منطقة عازلة بين غزة وسيناء، وهو ما كانت تتمناه إسرائيل، وهدم المنازل على الحدود، التى كانت تُحفر من تحتها الأنفاق.
أقرأ/ي أيضا: حقائق الهيمنة الاستعمارية
وبدلا من أن تستمر المقاطعة لإسرائيل تحولت المقاطعة أو الحصار شرقا إلى قطر. وأصبح العرب يحاصر بعضهم بعضا، بعد أن كان العربى عونا لأخيه العربى. يتقاتل العرب الآن، ومصر جزء من هذا الصراع فى ليبيا واليمن وسوريا، بعد أن كانت مصر مركزا لتوحيد العرب. الآن يجرى العرب وراء المصلحة القُطرية الضيقة بدلا من الصالح العربى العام. وعادى العرب دول الجيرة مثل تركيا وإيران، مهما كان هناك خلاف سياسى بينها.
وصادقوا إسرائيل، مهما كان هناك صراع فى الوجود بينها وبينهم وليس فقط صراعا فى الحدود. وعادت مصر السودان والحبشة، ومنهما يأتى النيل جنوبا، بعد أن كانت من مؤسسى منظمة الوحدة الأفريقية. انحاز العرب شرقا أو غربا، بعد أن كانوا من مؤسسى كتلة عدم الانحياز. روسيا تضرب سوريا، وأمريكا تعتدى على العراق.
ولا يكره أحد العرب، لأن القرآن فرّق بين العرب والأعراب. الرسول عربى، من أصل يمنى. والحكمة يمانية. والعروبة هى اللسان، فكل مَن تكلم العربية فهو عربى، حتى لو كان أعجميا مثل سليمان الفارسى وصهيب الرومى وبلال الحبشى من صحابة الرسول. أما الأعراب، وهم العرب الرحّل، فهم أشد كفرا ونفاقا كما وصف القرآن، تجار يجرون وراء الربح، ويتجنبون الخسارة، فإذا كانت المصلحة هى الموجهة لسياسة الدول الكبرى فإن الربح أو المكسب هو الموجه لسلوك الدول الصغرى. العرب لهم أوطان فى الحجاز واليمن والعراق والمغرب والشام.
أما الأعراب فهم قبائل رحّل. يضربون الخيام حيث الكلأ والماء. لذلك بكى شعراؤهم على الأطلال. حتى الشهامة العربية تنازل العرب عنها بمطالبة عرب آخرين تسليم إخوتهم فى العروبة إلى بلادهم للاعتقال أو التعذيب أو الموت، بعد أن كانوا أبطالا قوميين أو علماء كبارا. وبعد أن كان العرب فى مقدمة الشعوب التحررية يقودون حركات التحرر فى العالم أصبحوا يكونون كتلة بشرية من الشعوب الرجعية. وانتهى صراع الستينيات بين التقدم والرجعية لصالح الرجعية.
اقرأ/ي أيضا: إيران والاتجاه غربا
ظل أمل إسرائيل تحقيق السلام مع العرب، وتعنى بذلك عدم الانسحاب من الأرض المحتلة والاعتراف بها كوطن قومى لليهود، فلما تقدمت مصر خطوة تراجعت إسرائيل خطوتين. ولما تقدم العرب بمشروعهم الجماعى، الأرض فى مقابل السلام، تراجعت إسرائيل عشر خطوات. وأملها الآن فى خط طيران مباشر بين الرياض وتل أبيب بعد القاهرة وتل أبيب. والرياض رمز مكة والمدينة، ومركز حج سنوى للأمة الإسلامية، التى تبلغ أكثر من مليار وربع المليار نسمة. ينحنون أمام أربعة عشر مليونا من اليهود.
إن العرب لا يصحون إلا بنبوة أو رسالة كما لاحظ ابن خلدون من قبل. لا يستيقظون إلا مع محمد أو صلاح الدين أو عبدالناصر. اليوم خمر وغدا أمر. وقد يبقى الجيل الحالى منفصم الشخصية لأن ماضيه مناقض لحاضره، والزمن الجميل الذى يحن إليه الجميع، ويكره الزمن القبيح الذى يعيش تناقضاته الآن. والحق ثابت لا يتغير، وإن تغيرت الظروف، وتبدل الحكام، فحقوق الفلسطينيين ليست بأقل من حق الأرمن والأكراد. هذا هو الفصام بين ما يسمع العربى من ماضيه وما يراه فى حاضره وواقعه، فهو يحاول أن يصحو أو ينهض أو يصلح أو يثور منذ مائتى عام. وثورة الشعب الكبرى فى يناير 2011 ماضٍ حاضر. هل يمكن أن ينتهى الزمن القبيح، ويعود الزمن الجميل؟