- الصراع جعل عدن مدينة تضيق حرياتها العامة، ويسودها خطاب تمييزي ضد من لا يرضى عنه أصحاب القوة.
- أصبح من واجبات الأطفال توفير بدل مواصلات لمعلميهم بينما لا يحصل آباؤهم على مرتباتهم.
- مظاهر انهيار تحدث عنها ابن خلدون: تعصب، نكوص قبلي، غثائية.. وهبوط ما يعتمد عليه!
اليمن: ارتداد الدولة والمجتمع
بقلم: توفيق الجند
تشهد اليمن ارتداداً واسعاً نحو الماضي بكل تجلياته ومظاهره، ليس على مستوى الدولة أو خطاب الحكام، وإنما على المستوى الاجتماعي الذي أصبح يناقش قضايا مضت عليها قرون طويلة لتفسير مشاكله اليوم، والبحث عن حلول لها من موروث التاريخ المختَلف عليه.
فقد اليمنيون دولتهم وغرقت أحلامهم في مستنقع الحرب على مدار سنوات لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، فنسجوا أحلاماً جديدة على ضوء متغيرات بلدهم، هي أشبه بترويج طبيب ماهر للتداوي لدى المشعوذين، وتناسيه كل ما حققه من نجاح كطبيب تَعامل وفق معطيات العلوم الحديثة وعقاقير الكيمياء الفاعلة.
وعلى ضوء دعوة هذا الطبيب، لجأ المرضى إلى المشعوذين لإجراء عمليات جراحية دقيقة في أجسادهم، تنتهي في كل مرة بالفشل أو موت المريض. ومع هذا يستمر المرضى بالتدفق على المشعوذين باعتبارهم أمهر الجراحين في العالم، دون الاعتبار بالنتائج الكارثية لمن سبقهم.
استمرات النقاشات النخبوية والشعبية عقودا حول الوحدة بين شطري اليمن قبل العام 1990، باعتبارها الحل الذي سيتجاوز به اليمنيون كل أزماتهم على مستوى الشمال والجنوب، وهي التي تحققت على المستوى السياسي في 22 أيار/ مايو 1990.
لكن أصبحت اليوم قضية تفكيك اليمن إلى دويلات أو حتى إلى أقاليم فيدرالية، حسب مخرجات “مؤتمر الحوار الوطني” (آذار/ مارس 2013 ــ كانون الثاني / يناير 2014) هي الحل من وجهة نظر بعض اليمنيين، ومنهم متعصبون سابقون للوحدة اليمنية.
لم يتوقف الأمر هنا، بل لجأ يمنيون بأعلى المستويات، طلبا للحفاظ على دولتهم، إلى من عمل على مدار عقود على إضعافها وعرقلة تحولها إلى دولة مؤسسية ذات توجه مدني ديمقراطي.
وفي حين اشتكوا من دعم إيران لحلفائها من جماعة “أنصار الله” على أسس دينية مذهبية وطائفية، لجأوا إلى السعودية والإمارات اللتان تدعمان بدورهما جماعات دينية مذهبية أخرى، ولم تثبتا حتى الآن دعمهما للتيار المدني وإعادة الاعتبار للعمل السياسي والأحزاب السياسية في اليمن.
لقد حلت الميليشيات محل الأحزاب، وحل الخطاب المضلِّل محل خطاب التنوير، ليتم تحويل الصراع في اليمن من صراع سياسي إلى صراع طائفي، ومن منطلقات وطنية جامعة تبحث عن المشترك الوطني لتكريسه وعن قواعد القانون لإنفاذها كما يليق بمنطق الدولة الوطنية، إلى منطلقات مناطقية تبحث عن بواطن الاختلاف بين مكونات المجتمع لتعزيزها وتحويل التنوع إلى تباين كما يليق بمتعصب فوضوي أعمى.
وفي جانب آخر، نسي اليمنيون أنهم أجروا 3 انتخابات برلمانية وانتخابين رئاسيين وثالث رئاسي دون منافس (كما حدث مع انتخاب هادي)، وانتخابين للمجالس المحلية.. خلال فترة التعدد الحزبي بعد الوحدة.
وهي، مهما كانت مخرجاتها والاختلاف حول نزاهة إجراءاتها، فقيمتها تكمن في جوهر المبدأ الذي تستند إليه وهو التبادل السلمي للسلطة. واليوم أصبح هناك من يروج للحديث عن الولاية والحق الديني في تولي السلطة حصرياً لسلالة محددة، باعتبارها منهج الخلاص لليمنيين من وضعهم الراهن.
خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت مصر قتل امرأة لأطفالها لأنها لم تستطع توفير مستلزمات مدارسهم مع بداية العام الدراسي الجديد. وشهدت الصين جدلاً واسعاً حول تضمن فقرات الاحتفال بالعام الدراسي الجديد لأطفال الروضة رقصات عارية أمام أعين الأطفال.
في اليمن، بالمقابل، وخلال الأشهر الأخيرة، جرى اغتصاب وقتل وخطف عدد من الأطفال، في كل من عدن وصنعاء وإب وتعز، وتعرض عشرات الأطفال لقصف طيران “التحالف”، وآخرون لقذائف ورصاص قناصة “حوثيين”، في ظل موجة من تجنيد الأطفال والدفع بهم إلى جبهات القتال من قبل أطراف الصراع.
العام الدراسي يبدأ والطفل اليمني لا يجد ما يسد رمقه من الطعام، ولا ما يغطي جلده من الثياب، ولا ما يعالج جسده من المرض، بينما كثير من معلميه أصبحوا يعملون في أعمال يدوية قاسية لتوفير لقمة عيش أطفالهم بعد انقطاع مرتباتهم منذ آب / أغسطس 2016، باستثناءات قليلة حصل فيها معلمو المناطق الواقعة تحت سلطات “الشرعية” على مرتبات، ومعلمو المناطق الواقعة تحت سلطات “الحوثيين” على نصف راتب بين فترة وأخرى.
أصبح من واجبات الأطفال توفير بدل مواصلات لمعلميهم بفرض مبالغ شهرية عليهم، بينما آباؤهم لا يحصلون على مرتباتهم أيضاً، وسقط عشرات التلاميذ في حوادث متفرقة في حالات إغماء بساحات مدارسهم لأنهم لم يحصلوا على وجبات الإفطار، بينما لا يشكل ذهابهم للمدارس فارقاً حقيقياً، لأن الحصص المدرسية تمضي وهم قابعون في فصولهم دون معلمين، ولا منهج مدرسي.
ارتفعت أعداد التلاميذ العاجزين عن الالتحاق بالتعليم نتيجة استمرار الحرب وتحويل بعضهم إلى نازحين، وبعضهم إلى عمال يبيعون الأدوات البسيطة في تقاطع الشوارع لتوفير المال لأسرهم، وبعضهم تحولوا إلى أيتام دون معيل، وآخرون إلى قتلى في جبها ت القتال.
التسامح الذي ارتقى به اليمنيون على اختلافاتهم المناطقية والمذهبية، مثلهم مثل كل الدول التي يُفرز مواطنوها إلى فئات متنوعة (طبيعة لا تخلو منها دولة في العالم)، أصيب بانتكاسة حادة خلال سنوات الصراع، وارتفع الخطاب التمييزي بينهم كما لم يحدث من قبل.
هناك جماعات وأفراد يمنيون يرون أن الحل والمخرج لليمن وأبنائه يكمن في تصفية فئة من المواطنين، أو إقصائهم من المشهد السياسي على أقل تقدير، ومنهم من استند لمعطيات دينية يؤمن بها تجعل مُخالِفه الديني هدفاً للكراهية والتمييز، ومنهم من استند إلى معطيات تاريخية تفرز اليمنيين حسب أصولهم وطبقاتهم ومعتقداتهم، لتتسع هذه الموجة من خطاب الكراهية كل يوم.
تمتعت مدينة عدن تقليدياً بوجه المدينة المتنوعة والمسالمة ومتعددة الأفكار، أو المدينة العالمية التي تقع جغرافياً في اليمن. لكن الصراع حوّلها إلى مدينة لا تهم فيها إلا أماكن العبادة، وتضيق فيها الحريات العامة، ويسودها خطاب تمييزي ضد كل من لا يحظى برضا من يمتلك القوة فيها.
صنعاء التي كانت تشهد حفلات فنية عامة، وتحتضن عدداً من دور السينما والمراكز الثقافية والمنظمات المدنية والقنوات الفضائية والفعاليات الحزبية، يغيب عنها كل ذلك الزخم، وهي أصبحت تشهد صراعاً على منابر المساجد، ومداهمات للمقاهي المختلطة، ومسحاً لوجوه النساء في لوحات محلات التجميل.
المظاهرات النادرة والموجهة بالضرورة خلال الصراع في المدن اليمنية، أصبحت تطالب بوقف القتال، أو تحسين شروط الحرب، أو تروج للكراهية المجتمعية، بعد أن كانت رافعة للتغيير وتحسين بيئة التشريعات الناظمة للعمل السياسي، والضامنة للحقوق والحريات العامة..
بعد أن كانت مدرسة للديمقراطية والتعبير والمساءلة المجتمعية، وتعبيراً شعبياً في أغلب الأوقات (مع تخللها أحيانا تعبيرات سلطوية).
وهي تحولت اليوم إلى أداة سلطوية ولم تعد معبرة عن هموم واحتياجات الشارع، بل عن أولويات من يمتلك القوة والقرار في مناطق سيطرته، وحتى تلك المعبرة عن مطالب حقيقية أحياناً ــ كما حدث مؤخرا مع تدهور العملة ــ يتم توجيه خطابها ليس تجاه الفاعل بل تجاه الخصم المفترض، أو الفاعل المرغوب في إلباسه ثوب التهمة.
أكثر من تعصبهم لليمن، يتعصب اليمنيون اليوم لدول أخرى يعتقدون أنها تقف في المربع نفسه الذي يقفون فيه. فبعضهم يعتبر تركيا المعجزة التنموية التي يجب الاقتداء بها ودعم مواقفها، والبعض يرى تلك المعجزة في إيران، وإذا وقفت قطر في مربع قفز إليه كثيرون، وخرج منه كثيرون أيضا، ليس حسب طبيعة القضية بل حسب التيار الذي ينتمي إليه صاحب الموقف الأعمى وعلاقته بتلك الدولة أو تلك.
مؤشرات ومظاهر انهيار الدول التي تحدث عنها ابن خلدون قبل قرون طويلة، يمكن تتبعها بوضوح تام في اليمن، من التعصب والنكوص إلى القبيلة، وصعود الغثاء وهبوط ما يمكن الاعتماد عليه.
آثار هذه الردة نحو الماضي البعيد والقريب، والهروب من معطيات الواقع، ومتطلبات المستقبل كارثة يمنية ستستمر لعقود وأجيال عدة، لأنها أحيت كل ما مات من سيئات الماضي، ودفنت كل ما تخلّق من حسناته عبر رحلة نضال طويلة وصعبة قامت بها الحركات الوطنية خلال العقود الأخيرة.
- توفيق الجند كاتب صحافي من اليمن
المصدر: السفير العربي