كمن فك الجياد عن السباق الذي رُسم مسبقا له، من أجل إمتاع السادة، ينطلق الشعب العراقي مغردا خارج السرب الذي بقي فيه لعقود، يهتف العراقيون في مدينتهم البصرة الذاخرة بالنفط والثروات، بإسم رغيف الخبز وأكل العيش والكهرباء وخدمات اخرى أساسية يحتاجها المواطن العادي، بينما يرزح المواطنون تحت نير الفقر والبطالة وحولها أكوام القمامة وانقطاع الكهرباء بالساعات، يستخرج ملايين البراميل النفطية يوميا التي تذهب للخارج للتصدير وتأتي أموالها بمليارات الدولارات ليكون دخل الحكومة تريليونات الدولارات سنويا، والذي يدفع المواطن العراقي للسؤال، “ماذا عن عمل يوفر لي مائة دولار في جيبي أسبوعيا؟”.
لابد أن المواطن العراقي في مدينة البصرة كرر السؤال على نفسه مئات الألاف من المرات، لكنه لم يتحرك إلا الأن، وهذا ما يجعل طرح الأسئلة حول هذا الأمر، من الضرورة بمكان، فلماذا لم يتحرك العراقيون في البصرة بتلك القوة سوى في هذا الوقت، ماذا منعه أو من منعه، أو من منعه بماذا؟
للإجابة عن هذا السؤال، هناك فكرة يجب أن تأخذ بالإعتبار، وهي خطط “التدمير الذاتي” في القدم وقبل منتصف القرن الماضي، كان الإستعمار عندما يريد نهب ثروات بلد بأكمله، فإنه يلجأ للتدخل العسكري من أجل إحتلال هذا البلد، وإدارته بالطريقة التي تخدم مصالح المستعمر، وتساعده في تصفية كل ما له علاقة بالمادة والمال والثروة.
في ستينيات القرن الماضي، جرى تغيير تلك الإستراتيجية، إلى إستراتيجية اخرى دعونا نسميها “الإحتلال الذاتي”، تحتل البلد ذاتيا دون أن يحتاج المستعمر لإطلاق رصاصة واحدة، لقد رأى المستعمر أن يوفر ثمن الرصاصة مادام يستطيع أن ينهب ما يريد دون إطلاق الرصاص، وعندما يستدعي الأمر تدخله فإنه يتدخل، لذلك فإن بلدان تدمر والخراب يعمها، والفساد ينتشر في أوصالها وشرايينها ويجوع شعبها ويمرض ويعرى وينام على الأرصفة، ومع ذلك، فإن ثروات هائلة تخرج من باطنها وظاهرها ولا ينالهم منها شئ.
بالطبع لابد وأن المصطلح قديم قدم الخراب في دولنا العربية، وأنه تم تناوله في العديد العديد من المقالات والأبحاث والتقارير والكتب، لكن المصطلح في الحالة العراقية نفسها يعد مفسرا بشكل كبير جدا، كيف ينتشر الفساد والخراب؟، وكيف يعيش الفقر بين الناس؟ وكيف يصمت الناس عن كل ذلك؟
خصوصية العراق تبدأ منذ بدأ الغزو الأمريكي، للبلاد عام 2003، بالنسبة لقارئ المقال فالأمور غدت واضحة وضوح الشمس، استدعت دولة العراق التدخل من قبل المستعمر بشكل مباشر، كما بيّنا مسبقا، لأن وكلائه في الداخل وعلى رأسهم الديكتاتور صدام حسين، لم يكن ولائهم بالدرجة الأولى للمستعمر، فاستدعى الأمر غزوا سريعا لضبط مقياس “الإحتلال الذاتي”، لكن بالطبع طالت المدة فيما بعد، ليسيطر الإحتلال عسكريا على البلاد، قبل أن يعاود الدخول للعراق من خلال تحالف جديدا ولكن تلك المرة لمحاربة الإرهاب، الحجة الجديدة بديلة نشر الديموقراطية والقيم الأمريكية بقوة السلاح.
داخل الأمريكان في العراق النفوذ الشيعي الإيراني، كما داخله في الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، ومازال النفوذان يعملان على بسط سيطرتهم على البلاد، للنفوذ الإيراني حكمة بالغة في التحكم بعقول الخلق، حيث أن المذهب الديني العاطفي الذي يتخذ من المظلومية والتباكي أساس وشعار له، يمكنه التخلل بشكل أو بأخر خلال عقول أتباع ذلك المذهب، جعل النفوذ الملالي الديني من الشيعة العراقيين مجرد ألة تتحرك بالفتوى، تنال صك الفتوى من أجل النوم والأكل والشرب والمشي والجلوس، كلام الشيخ لا بديل عنه، متصل بالدين اتصالا لا شك فيه، اهتمامات الشيخ من اهتمامات مريديه، واهتمامات الشيخ من إملاء من فوقه في متتابعة تصل للمرشد، لكل شئ لابد من فتوى وإلا لما دخلت رحمات الشيخ ومشغليه، حتى الجنة نفسها أصبح لها جوازات سفر، فكيف عندما لا نجد الخبز يا شيخنا؟ سيجيب: الفقراء يدخلون الجنة.
لابد أن للإحتلال وكلاء في الصحة والتعليم والبترول وكل ما له علاقة بحياة الناس لكن الوكيل الأهم للإحتلال هو رجل الدين، فهو المحرك الأساسي للفرد والحشد، لذا إن دورا لإيران في العراق لا يخطأه العين، حيث يخطأ الحشد مرأى حياته باحثا عن الغيب، وهو لا يدر بالا أن الغيب بيد الله لا بيد الشيخ ومن والاهم.
بالنسبة لأمريكا فكيف يكون نفوذها؟ كم هي ذكية أمريكا في إستغلال أعداءها في رحلتها لبسط نفوذها كاملا على الشعوب، كيف تستغل واشنطن جماعات إنفصالية شمالي سوريا وتدعمهم من أجل مصالحها، وهي التي كانت تصنفهم كجماعات إرهابية، كيف تستغل كوريا الجنوبية في عداء الشمالية عدوتها، كيف تستغل الجنوب السوداني ضد الشمال، أمريكا ماهرة كلالمهارة في تلك اللعبة، يعني أن إيران لا تنفك أن تراها أمريكا أكثر من أداة، كل الدروشة والتدين السياسي الكهنوتي الفارغ، مفيد لأمريكا هي الأخرى، كيف نتعب حالنا في وضع كود أيديولجي يحرك الخلق، وهو يؤدي ما نسعى لتأديته بالضبط، ان لا يرى المواطن الوسخ حوله ويرى الجنة، ثم دعونا نرى النفوذ في وكلاء بمجالات أخرى، هكذا لسان حالها.
لابد أن المواطن العراقي في البصرة وعى لتلك اللعبة، رأها رأي العين، زادت الفاقة والحاجة عن المحتمل، وعى لحقوقه وكيفية أخذها، أحرق مبنى الحكومة وقنصلية إيران وكان في طريقه لقنصلية أمريكا، انتهت الاستراتيجية عن مفعولها، والأن باتت حلول وكلاء الإحتلال، في الوعود الفارغة، ومن بعدها القمع بتدريجاته!