يرتكز التنافس الإقليمي بين الحلفاء على بقاء التحالف الأصلي بين موسكو وطهران والنظام!
هل يتوجه الروس بالفعل إلى إقصاء الشريك الإيراني؟!
النظام اليوم، لا يمثل أي بعد لدولة قطرية عربية، بل كانتون طائفي في هيكل دولة.
بقلم: مهنا الحبيل
باتت معركة إدلب العسكرية في أقرب أوقاتها، والتي يُحسم بعدها الانتصار العسكري المشترك للنظام والمشروع الروسي/ الإيراني، تحت مظلة القرار الروسي، ولصالح التواجد الضخم، الذي يُعد اليوم بمثابة احتلال ضمني للأرض السورية.
ورغم ضم تركيا للتحالف السياسي لاتفاق سوتشي، الذي بُسطت اتفاقاته على الأرض، إلّا أن هناك مساحة محددة للشراكة التركية في ترتيبات ما بعد الحسم.
كما أن الشراكة الإيرانية القوية مع موسكو، لديها مساحات نزاع مصالح، تتعلق بكيفية إعادة تدوير النظام ما بعد الحرب، واستثمار ذلك لبسط التفوق الإقليمي لمصالح كل بلد، وتعتبر موسكو اليوم قوة إقليمية مستقرة، مع بقاء صفتها الدولية، كقطب عائد من جديد للتنافس العالمي.
وفي أوج انتصارها العسكري على الثورة السورية، ومشاركتها في أكبر مذابح شهدها العصر الحديث بعد الحروب العالمية، فإن ما يعني الروس على الأرض، هو أنهم المنتصر الرئيسي في الحرب السورية، وكيف يحلبون هذا النصر.
ويأتي في هذا الصدد حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال استقباله لوزير الخارجية التركي، في موسكو 24 أغسطس الجاري، بأن الخلاف مع أنقرة حول إدلب (الاجتياح العسكري) لن يُغيّر من بقاء التحالف الاستراتيجي القائم بينهما.
ويُفهم من تصريح الوزير التركي د. مولود جاويش أوغلو في ذات الزيارة، وقوله إن هناك كارثة ستحل على المدنيين، كإبلاغ إعلامي علني لاستياء أنقرة من ذلك، لكن بالطبع لن يترتب على هذا، أي مواجهة مع الروس أو قوات النظام المحتشدة لساعة الصفر.
وتشعر تركيا باستياء بالغ دون فرصة كافية للمناورة، من ضغط الروس على إبقاء مساحتها في اتفاقات التحالف التي تزامنت مع سوتشي في دائرة محددة، خاصة أن تصعيد ترامب على تركيا عزز حظوظ موسكو.
في ذات الوقت لا تريد فيه أنقرة الرجوع عن اتفاقها الروسي، منذ تجربة تدهور علاقتها مع موسكو بعد إسقاط السوخوي الروسية، في نوفمبر 2015.
ومن الواضح استثمار موسكو للضغط الأميركي على أنقرة، وبالتالي تتعامل موسكو مع هذه الشراكة ببعد واضح، وهو أن تركيا قد حققت بموجب هذه الشراكة أهم بند، وهو إنهاء فرص أي قيام لأقاليم كردية في سوريا وفي العراق يهدد شرق تركيا.
وهو الركيزة الأصلية الاستراتيجية لتركيا، كحكم ومعارضة وجيش قومي، ثم التعاون الاقتصادي والسياسي مع مناطق القوقاز وآسيا الوسطى، ذات الامتداد الأممي التركي، الواقعة تحت سيادة الروس وقرارهم السياسي.
وبناءً على هذا فإن تواجد التأثير التركي فيما تبقى من مناطق في شمال سوريا، سيتراجع لحدوده الدنيا بعد الحسم العسكري لإدلب، لكن هذا الواقع الذي يخطط الروس لبسطه على الأرض، وبقاء التواجد العسكري الثنائي مع النظام لصالح طهران وموسكو، لديه ضريبة أُخرى وهي أن هذا الاجتياح محاذ للحدود التركية، وبالتالي تأثيراته عليها ستكون له تداعيات صعبة.
من هنا جاءت دعوة دي مستورا المبعوث الأممي لسوريا، الذي يتحرك بناء على رؤية المصلحة الغربية، لأجل مفاوضات تستبق هذه المعركة، وضمان عدم حصول هجرات كُبرى إلى تركيا مجدداً، تتسرب إلى الغرب، وهو ما يُعتبر ورقة ضغط إضافية لصالح الروس، تضمن عدم تكرار عمليات التدفق البشري.
وهنا يضغط الروس، لتفكيك أكبر ترسانة عسكرية، سواء كانت لفسيفساء فصائل الثورة المتعددة، أو كانت لنُسخ جبهة النصرة، ولا يوجد اليوم جيش حر بمعناه الأصلي للثورة.
فالجيش الحر أُنهي مشروعه، منذ التوافق الدولي الإقليمي العربي على تنحيته واستخدام السلفية الجهادية أو المال السياسي الخليجي لذلك، وإنما هو ما تبقى من قوات الثوار في مقابل ما أُعيد صناعته من السلفية الجهادية.
والكارثة هنا هو أن تكون ضريبة كل هذه الحسابات على البعد المدني السوري، فتشتعل مواجهات عسكرية، تبدأ عبرها عملية الحسم العسكري، بعد سقوط آلاف القتلى، حينها سيقول الروس إن عمليتهم بالتوطين قد بدأت الآن.
وتفرض أجندتهم على الشريك الأوروبي، الذي لا يعنيه شيء غير الخشية من تدفق اللاجئين إلى حدوده مجدداً، وهو نفس الموقف الأميركي الذي يدعم الروس في هذا الملف.
ورغم أن احتمالية معالجة قضية القس الأميركي والخلاف التركي الأميركي واردة، كما أن أنقرة لن تسعى مطلقاً، لتفكيك علاقاتها مع الناتو ولا تطوير الصراع مع واشنطن، رغم وجود مواجهات إعلامية شرسة، لأن ذلك يفقد أنقرة موقعا استراتيجيا أوروبيا.
ظل الإيمان به قائما منذ مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك حتى حزب العدالة، فقط الزعيم الإسلامي التاريخي نجم الدين أربكان، هو الذي كان معارضا شرساً لهذا الارتباط بتحالف شمال الأطلسي.
سوى أن هذا التحسن المتوقع في العلاقات التركية مع واشنطن، بعد هذا التوتر، وخاصة بعد تورط ترامب الداخلي الأخير، من الصعب أن يصنع فارقا للمناورة التركية أمام ضغط الروس، باعتبار أن واشنطن قد ترغب في إبقاء بعض الحسابات خارج السلة الروسية.
فهذه الرغبة لا يمكن ميدانياً الآن أن تتحول لمنع هذا الاجتياح، لإبقاء النفوذ التركي في شمال سوريا، فموسكو تستعجل العملية وهي تُمسك بالميدان بقوة.
وقد تكون هناك حسابات مرنة لنفوذ تركي، في شمال سوريا اقتصاديا واجتماعيا، بعد الحسم، وهذا ما يعرضه الروس على الجانب التركي، لكن معركة الحسم الأخير سيكون في مدار الرؤية الاستراتيجية القومية لموسكو.
هنا وبعد تحييد الجانب التركي مع بقاء شراكته النسبية، يَطرح المشهد سؤال العلاقة للتحالف الأصلي بين موسكو وطهران، فهل يتوجه الروس بالفعل إلى إقصاء الشريك الإيراني، كما يطرحه الاعلام العربي كأمل يتحقق بعد عجز العرب المخزي في سوريا وشراكتهم السلبية؟
يجدر التنويه أولاً هنا، أن النظام اليوم، لا يمثل أي بعد لدولة قطرية عربية، بل كانتون طائفي في هيكل دولة، من يملك القرار النهائي فيه قوة خارجية سُميت احتلالا أو نفوذاً مطلقا، قد تعمل طهران لتوسيع واسترداد الأسد بعض شعبيته الاجتماعية على الأرض بعد الحسم، أمام شعب الثورة المنكسر، غير أن ذلك أيضاً سيكون تحت أعين الروس.
وتواجه طهران شراكة احتلال مختلفة عن العراق، فاستخدام البنية السياسية الطائفية في العراق، التي عملت عليها لأكثر من ثلاثة عقود منذ 1980 حتى 2003، ساعدها في الولوج والتمكن من قلب العملية السياسية الأميركية، منذ بول بريمر، وكان هناك مشروع طائفي اجتماعي في سوريا عملت عليه طهران أيضاً لدعم ذراعها في لبنان، ولاختراق المجتمع السوري، غير أن تفاصيل الواقع الاجتماعي في سوريا مختلفة عن العراق، إضافة لأطياف النظام في شرائحه العلمانية المتعددة.
وبالتالي لن تستطيع طهران استنساخ تجربة العراق في سوريا، فمع هذا الفارق عين القيصر الأحمر ودمويته، فخشيته من فوات حصته الكبرى لن تسمح بذلك، وهذا ما يطرح السؤال الكبير، هل بالفعل طهران تريد اغضاب الروس والصراع معهم، أم أنها حريصة حالياً على بقاء التحالف الأقوى، وتحييد أي حضور عربي لذات المجتمع السوري، أو أي منافسة تركية اجتماعية قادمة؟
هنا نفهم مستقبل المشهد الإقليمي في سوريا، إن عقلية النظام الإيراني الذي يُدرك ما يواجهه اليوم داخلياً وفي العراق، والضغط الأميركي الجديد، لا تتجه للصدام مع موسكو، بل إن الحصة التي يسمح بها الشريك الروسي مقبولة اليوم، في ظل إطلاق يدها إعلاميا واجتماعيا شريطة أن تبقى تحت مصالح الروس.
والمراقب الذي تابع تطور علاقات موسكو، مع طهران الجمهورية الدينية بعد سقوط الشاه، يُدرك بأن الروس حرصوا على استثمار رسائل التقارب مبكراً، ورأوا في شراكة إيران الطائفية مصالح قومية لهم، وهي على الأرض أوثق لهم من تركيا.
فقوات إيران العسكرية والميليشيات المشاركة مع النظام شكلت رديف قلب ميزان الحرب، ولم تنقطع المصالح حتى اليوم مع إيران كدولة إقليمية كبرى يمتد نفوذها من سوريا، إلى ساحل الخليج العربي المهم لاستراتيجية الروس القادمة.
وعلى ذلك سيكون لهذا التنافس الإقليمي الشرس مساحة بين الحلفاء، لكنه اليوم يرتكز على بقاء التحالف الأصلي بين موسكو وطهران وكانتون النظام، ثم التعامل مع بقية الأطراف في السلة الأخرى، وتحديد معالم التحالف معهم بناء على هذه القاعدة، التي ستظل بأيدي الدب الروسي حتى تتغير قواعد اللعبة القائمة.
- مهنا الحبيل كاتب عربي مستقل مدير مكتب دراسات الشرق الإسلامي.
المصدر: الوطن القطرية