- يميز هذه الفترة حدثان تاريخيان يتعلقان به شخصيا: مجازر رواندا 1994 ومجازر البوسنة والهرسك 1995.
- كانت ولاية أنان الثانية كارثية على الأمم المتحدة وعلى أنان نفسه وعلى قضية فلسطين والقضايا العربية.
- بعد تورط ابنه كوجو في فضيحة «النفط مقابل الغذاء» بالعراق أصبح أنان ضعيفا مترددا غير قادر على الحسم، وأفل نجمه مع نهاية 2006.
بقلم: عبد الحميد صيام
سأحاول أن أسبح ضد التيار وأعيد إلى الأذهان الضرر الكبير الذي ألحقه كوفي أنان بالقضية الفلسطينية بإرادته، أو بدون إرادته، أو لخشيته من مواجهة الإدارة الأميركية، خاصة أيام الرئيس جورج بوش بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
تدرج كوفي أنان في السلم الوظيفي للأمم المتحدة من موظف عادي عام 1962 في منظمة الصحة العالمية، وصولا إلى وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون حفظ السلام، أيام الأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي.
ولعل أهم ما يميز هذه الفترة حدثان تاريخيان يتعلقان به شخصيا: مجازر رواندا 1994 ومجازر البوسنة والهرسك 1995.
في الحالة الأولى اعترف كوفي أنان في مذكراته بأنه ارتكب خطأ في رواندا، لأنه لم يأخذ تحذيرات قائد قوات حفظ السلام الكندي روميو داليير الذي أرسل له برقية وراء الأخرى يحذره من مجازر مقبلة.
وبدل الاستجابة للالتماسات بزيادة بعثة حفظ السلام، تم تخفيف عدد أعضاء البعثة ومنعت من التدخل لوقف المجازر. أنان يقول في مقابلة متلفزة «إن ذلك الفشل في وقف المجزرة سيبقى يلاحقه طوال حياته».
والفشل الثاني الذي يسجل له أن مذبحة سربرنيتسا في البوسنة في يوليو/تموز 1995 كانت أيضا تقع ضمن مسؤولياته، حيث تقدمت القوات الصربية إلى منطقة الحماية التي تشرف عليها الكتيبة الهولندية، وسحب جميع الرجال والأولاد وذبحوا بدم بارد، ودفن نحو 8000 شخص في مقابر جماعية.
وقد كافأه المبعوث الأميركي هولبروك على دوره في حرب البوسنة بأن قال في مذكراته «في تلك الليلة قررت أن يكون الأمين العام القادم كوفي أنان».
انتخب أنان خلفا لبطرس غالي الذي دفع ثمن موقفه المبدئي من مجزرة قانا في جنوب لبنان عام 1996. وكانت دورة أنان الأولى (1997-2001) بشكل عام جيدة حيث لم يواجه أزمات كبرى سوى حرب كوسوفو عام 1999، التي تم احتواؤها بسرعة.
فركز في تلك الدورة على مسائل التنمية وإصلاح المنظمة ومحاربة داء نقص المناعة المكتسب (أيدز) وتطوير آليات مراقبة حقوق الإنسان، التي تجسدت لاحقا في مجلس حقوق الإنسان، ونتيجة لإنجازات هذه الفترة منح كوفي أنان والمنظمة الدولية جائزة نوبل مناصفة لعام 2001.
كل شيء تغير بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 وتحولت أميركا إلى ثور هائج، على استعداد أن تبقر بطن كل من يقف في طريق مخططاتها العسكرية، وقراراتها بغزو أفغانستان والعراق وإطلاق حرب كونية سميت «الحرب على الإرهاب».
ويمكنني أن أكتب كثيرا حول تردد كوفي أنان في معارضة الحرب على العراق قبل وقوعها، لكنه لم ينطق الكلمة السحرية في وصف تلك الحرب بأنها «حرب غير شرعية» إلا في سبتمبر 2004 أي بعد سنة ونصف السنة. لكنه عاد وتعامل مع احتلال العراق، وكان أول مسؤول دولي يزور بغداد وهي تحت الاحتلال عام 2005.
إن أفضل وصف لولاية أنان الثانية بأنها كارثية على المنظمة وعلى أنان نفسه وعلى القضية الفلسطينية والقضايا العربية بشكل خاص. فقد عملت الولايات المتحدة على تهميش المنظمة الدولية والمرور على جسدها لترتيب منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، بدون أن يستطيع أنان الانحياز إلى القانون الدولي والضمير الإنساني.
وهو يرى أميركا تحتل العراق عام 2003 بناء على كذبة كبرى، ورأى إسرائيل تعيد احتلال المدن الفلسطينية ودبابات وطائرات شارون تقصف التجمعات الآهلة بالسكان، وترتكب المجازر في المخيمات عام 2002، ثم تقع في نهاية ولايته حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، ومرة أخرى يتلعثم ويتردد في إدانة العدوان.
لقد فتحت أميركا ملفات الفساد في المنظمة الدولية، مشيرة إلى تورط ابنه كوجو في برنامج «النفط مقابل الغذاء» في العراق، الذي تبين أنه أعطى فرصة لمئات الشركات لحصد ملايين الدولارات من أموال الشعب العراقي.
بعد تلك الفضحية أصبح أنان ضعيفا مترددا غير قادر على الحسم، وبدأ نجمه يأفل إلى أن غاب في الزحام مع نهاية عام 2006.
وأود أن أتوقف قليلا في بعض المحطات الخطيرة التي فشل كوفي أنان في الوقوف إلى جانب القانون الدولي في قضية فلسطين، وآثر السكوت أو مداراة الجاني خوفا على منصبه أو خططه المستقبلية بعد الخروج من الأمم المتحدة.
أولا: اللجنة الرباعية. لم يحدث في التاريخ أن منظمة عالمية تعتبر مصدر الشرعيات والمرجعيات والقانون الدولي تقزم نفسها وتصبح ربعا واحدا من أربعة أرباع. فقد تساوت في اللجنة الرباعية التي أنشأها بوش لقضية الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي.
فكيف لمنظمة تضم في عضويتها 193 دولة تتساوى مع دولة واحدة. ففي القبول بتشكيل الرباعية تنازل كوفي أنان عن كون الأمم المتحدة إطارا أوسع وأقوى وأهم من أي دولة أو تجمع دول داخلها، وتخلى عن كونها مرجعية للآليات جميعها، ومصدرا للقانون الدولي.
وقد وضع الأميركان للجنة خريطة طريق تساوي بين القاتل والضحية، وتضع الشرط الأول على كاهل الفلسطينيين. فأول بند في الخريطة المؤامرة يقول: «يقوم الفلسطينيون بحل أجهزة أمن السلطة وإصلاح الهياكل، وعلى الفلسطينيين نبذ العنف والإرهاب والتحريص وتعليم السلام».
ويجب على الفلسطينيين تفكيك الجماعات المسلحة ومصادرة جميع الأسلحة غير المشروعة. والغريب أيضا أن الخريطة تنص على أن المرحلة الثانية المتعلقة بانسحابات إسرائيلية، لا تبدأ إلا بعد أن ينفذ الفلسطينيون جميع الشروط الواردة في المرحلة الأولى. وقد قبل الفلسطينيون خريطة الطريق، بينما سجل عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون 14 تحفظا.
ثانيا: مذبحة مخيم جنين وإعادة احتلال المدن الفلسطينية. على إثر ورود أخبار عن مجزرة ترتكبها القوات الإسرائيلية في مخيم جنين في أوائل أبريل/نيسان 2002 قام مجلس الأمن الدولي باعتماد القرار 1405 يوم 19 أبريل 2002 بإجماع الأعضاء بمن فيهم السفير الأميركي نوغروبونتي، لاعتماد آلية تحقيق في المجزرة. وقد وعد شمعون بيريس وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك كوفي أنان بالتعاون.
وتحت ضغوط دولية كبرى، اضطر كوفي أنان لأن يشكل لجنة تحقيق في المجزرة برئاسة مارتي إحتساري، الرئيس الفنلندي السابق، وعضوية اليابانية صاداكو أوغاتا، المفوضة السامية لشؤون اللاجئين سابقا.
وبعد تجمع الوفد في جنيف وانتظاره ثلاثة أيام، رفضت إسرائيل استقبال الوفد، وعاد كوفي أنان إلى مجلس الأمن وطلب التخلي عن إرسال الوفد والاكتفاء بتقديم تقرير عن بعد للجمعية العامة.
ثالثا: تعيين تيري رود لارسنز عين كوفي أنان وبناء على ضغوط أميركية عام 1999 النرويجي تيري رود لارسن ممثلا للأمم المتحدة لدى السلطة الفلسطينية، ومنسقا لعملية السلام في الشرق الأوسط. وكانت زوجة لارسن تعمل سفيرة لبلادها لدى إسرائيل.
وخلال فترة عمله في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كان أقرب إلى وجهة النظر الإسرائيلية، لدرجة أن سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة، ناصر القدوة، وصف أحد تقاريره لمجلس الأمن «من يسمع هذا التقرير يظن أن فلسطين هي التي تحتل إسرائيل»، وطلب من السلطة الفلسطينية وقف التعامل معه وإعلانه «شخصا غير مرغوب فيه».
والغريب أن كوفي أنان ظل متمسكا به وأعاد تدويره وعينه ممثلا له في لبنان لتنفيذ قرار 1959 (2004) الذي يطالب بطرد القوات الأجنبية من لبنان (سوريا) ونزع سلاح الميليشيات (حزب الله).
رابعا تجنب المرورو قرب جدار الفصل العنصري: قام كوفي أنان بعدد من الزيارات لفلسطين وإسرائيل. وكان آخرها بعد حرب جنوب لبنان 2006. وقد حرص أنان على أن يلتقي بأهالي ثلاثة جنود إسرائيليين كانوا مختفين في جنوب لبنان وكانوا السبب المباشر للحرب.
لكنه لم يزر أيا من أهالي آلاف المعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل، بمن فيهم أعضاء مجلس تشريعي منتخبون ووزراء وأطفال. كما كان أول أمين عام يختار فندق الملك داود في القدس الغربية مقرا لإقامته، وكأن ذلك تكريس للقدس عاصمة لإسرائيل.
ومن الفندق استخدم طائرة مروحية لتنقله إلى رام الله للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كي يتجنب المرور من قرب الجدار العنصري، الذي كانت تشيده إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية، في مخالفة للقانون الدولي، كما أشارت محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 يوليو 2004. ولم ينس أيضا أن يطالب بإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي الجندي جلعاد شاليط.
وتقديرا لمواقف أنان، عقدت البعثة الإسرائيلية حفل وداع له في نيويورك بمناسبة انتهاء ولايته، كما روى لي أحد المسؤولين الكبار في عهده، قال أحد المتكلمين الصهاينة في الحفل: «نود أن نشكر كوفي أنان للأشياء التي عملها من أجل إسرائيل وللأشياء التي لم يعملها أيضا من أجل إسرائيل».
- د. عبد الحميد صيام محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة رتغرز بنيوجرسي.
المصدر: القدس العربي