هل تستطيع مجتمعاتنا أن تتطور وتتحرر من السلطات القهرية
يرى العلامة الدكتور حامد ربيع أن الثقافة هى عنصرمن عناصر الإدراك بل هى الإطار الفكرى لعملية الإدراك الجماعى ، وهى بهذا المعنى مصدر مباشر لتحديد خصائص لا فقط التعامل بين المواطن والسلطة ولا فقط أسلوب الالتحام بين المجتمع القومى والمجتمعات الخارجية بل كذلك الرؤية الذاتية للحضارة القومية بما يعنيه ذلك من تماسك تاريخى وثقة فى التراث والانتماء … الثقافة هى المادة التى منها وبها يتكون الولاء ، والقضية الأكثر التصاقا بالخاص الحميم للأفراد التى تدفعهم للصراع من أجل الاحتفاظ بها ، والثقافة هى قيم وهى تقاليد وهى ممارسات ثم هى نظام متكامل لا يقبل التحلل ولا يعرف إلا التماسك التصاعدى . الثقافة بهذا المعنى هى أولا ـــ إيمان وثانيا ــــ امتياز وثالثا ــــ تضحية وكفاح .. إيمان لأن المتغير الحقيقى الذى يفرض ذلك التفاعل المستمر بين المواطن وقيمه الثقافية إن هو إلا شعور داخلى يفرض عليه أن يرى فى تلك القيم محور حياته ووجوده ، وهى ثانيا امتياز لأنها ملك الطبقة المختارة التى تمثل الاستمرارية الحقيقية ، وهى ثالثا تضحية لأن محورها الخضوع لعادات وتقاليد واحترام تلك العادات والتقاليد حتى لوعلى حساب ـ أيضا ـ المصلحة الفردية ، والثقافة حصيلة لقاء ديناميكى بين دلالة الخبرة الماضية وعملية المواجهة اليومية لمشاكل الوجود الإنسانى …. وبهذا المعنى ـ كما يرى العلامة الدكتور حامد ربيع ـ هى جامدة ومتجددة فى آن واحد ، الخبرة تصير علامة المعرفة ، والتعامل المستمر يقود إلى مرونة إزاء الواقع المتجدد لا ثقافة دون تاريخ ، ولا ثقافة دون حركة مستمرة وانبعاث دائم نحو التغيير والتجديد . ومن هذه الثقافة المنطلقات فإن الثقافة قد تجسد أنظمة السلطة بقوة في المجتمعات بمستوياتها الرأسية والأفقية فالنظام العالمي الحالي مبني على نموذج قوة ” محصلته صفر ” في هذا النموذج ، تجلس مجموعة واحدة الصفوة الرأسمالية والمجتمعية في المقدمة ، مع مجموعات أخرى مجتمعية تابعة مما يكشف ويخلق ويعزز التسلسل الهرمي للقيمة الإنسانية وبما تشمل الجنس والعرق والتوجه الجنسي والدين والطبقة وحالة الهجرة والقدرة والعرق والعمر والتقاطعات فيما بينها تحدد مكان جلوس كافة النوعيات في التسلسل الهرمي المجتمعى . يشكل نموذج القوة هذا كل شيء من قيمنا وأنظمة معتقداتنا إلى مؤسساتنا وهياكلنا وسياساتنا وممارساتنا رأسيا وأفقيا ، كما أنه يؤثر بقوة على فاعليات آليات سلوكياتنا الشخصية والفردية والمجتمعية … وفي الوقت نفسه ، فإن اختلالات القوة تعزز الاستقطاب بين المجموعات القوى وتدعم مفاهيم ” نحن ضدهم” وهذا يؤدي ديمومة سلوكية مجتمعية ” متنوعة الآثر والتأثير .
وعلى نحو مؤكد تضع المعايير الثقافية معايير السلوك الجماعي وتشكله .. وتملي هذه المعايير ما يعتبره المجتمع مقبولاً أو غير مقبول ، وماذا يكافأ أو يثبط , وعندما تحافظ المجموعة المسيطرة على قوة وامتياز أكبر ، وتنظر إلى المجموعات الأخرى على أنها أقل قيمة وتأثيرا ، فإن تلك الأقل مرتبة في التسلسل الهرمي يكون منظور إليها بأنها غير إنسانية وتصبح عرضة للتمييز والعنف وغالبا ما تدعم المعايير الثقافية هذا التسلسل الهرمي ، مما يجعل التمييز والعنف ضد الفئات المهمشة أكثر قبولا .
على سبيل المثال ، فإن نموذج السلطة السائد حول العالم يمنح الرجال بشكل عام الامتيازات على النساء .. ونتيجة لذلك ، تصبح الثقافة وسيلة للإشارة إلى أنه يحق للرجال التحكم في النساء وأجسادهن … غالبًا ما يُنظر إلى النساء وتصويرهن وتمثيلهن على أنهن أقل قيمة من الرجال ، ونتيجة لذلك ، تعاني العديد من النساء من التحرش الجنسي والاعتداء الجنسي والتعارف أو عنف الشريك الحميم والتمييز في مكان العمل وغير ذلك ، وحيث تتعرض المرأة للعنف في حياتها ، في حين لا تتم محاسبة سوى نسبة ضئيلة من أولئك الذين اختاروا ارتكاب العنف ، في ظل نظام يمييز البعض على الآخرين ، تكون أنظمة المسائلة ضعيفة للمجموعات المهيمنة ، وهذا هو السبب في أن إفلات مرتكبي التمييز والعنف من العقاب مرتفع ، وكذلك ممارسات نزع الشرعية عن العنف وإلقاء اللوم على الضحية وفى كثير من المجتمعات .
من هنا يتطلب تغيير الثقافة تدخلات تتحدى المعايير القائمة وتستبدلها بأخرى جديدة ، بما أن الثقافة واسعة وعميقة وموجودة على مستويات مختلفة ، يمكن أن تحدث تدخلات تغيير الثقافة في أي / جميع هذه المستويات ؛ فرد + العلاقات الشخصية ( مثل المنزل والأسرة والمدرسة والعلاقات ) ؛ المجتمع ( على سبيل المثال ، الفرق الرياضية ، ومجموعات الحرم الجامعي ، والجمعيات النسائية ، وأماكن العمل ، ومجموعات Facebook ، وثقافة الألعاب) ؛ المجتمع ( حياة الحرم الجامعي ، والتقاليد الدينية ، والثقافة الوطنية ) ؛ المؤسساتية ( النظم التعليمية والحكومات ) ولكي يحدث التغيير الثقافي الحقيقي في قضية مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي ، يجب أن يتم التدخل على جميع مستويات النظام المجتمعى راسيا وأفقيا ، ولابد من إعادة كافة المؤسسات المجتمعية المسئولة عن قيادة الدول دراسة الأطر المرجعية لمجتمعاتها والتى تشمل العادات والتقاليد والقيم والأعراف والعلاقات القرائبية والمجتمعية والقبائلية والتعليم والتربية والتنشئة المجتمعية ووسائل الإتصال الجماهيرية والمجتمعية والتقنية وتأثيراتها وماهية فاعلياتها في مجتمعاتها ، ومما يؤدى بقوة إلى إحداث تقدم في المجتمعات والنعوض بها . فهل تستطيع مجتمعاتنا العربية تطوير ماهياتها الثقافية نحو خلق مجتمعات أكثر قوة وتحررا من السلطات القهرية .. !!
موضوعات تهمك:
الأزهر: شائعات كورونا من أخطر الأسلحة التي تهدد أمن المجتمعات
الأنظمة العربية «تفخّخ» المجتمعات وتنشر «العدمية» و«الإحباط»!