بقلم :مستشار التحرير … أحمد عزت سليم
ـ طوبى للذى يهوانى ..
حاول عبده البلقينى أن يتوازن وهو يدخل إلى نقرة صابحة وأن يعتدل فى مشيته حتى لا يفرح فيه خصمه عثمان الفطاطرى وعدوه محمد الرشيدى ، سيسلك الجانب الأيمن ويدخل من حارة اليمانى مباشرة إلى بيت هانم القرعة قبل أن يسبقه أى من هؤلاء الأنذال ولا حتى عم زوزو الذى يطادره باستمرار طمعاً فى محبته إذ أبلغه سعيد أبوسالم أن عم زوزو يهواه ويتطلع إلى اليوم الذى يكون فيه خادماً لأعتابه ، وقال له سعيد أبوسالم : إنه أحسن من كلبه وأرق من الست هانم القرعـة ، غضب عبده البلقينى من سعيد أبوسالم ومن يومها قاطعه ، ولم يعد يصطحبه إلى هانم القرعة .
هذا هو اليوم الذى خصصته هانم القرعة من أجل صحبته وحده حتى يسعد بهـا ، لقد أعد كل شئ ، أرسل صبيان المصنع بالحرير والمفروشات والألبسة التى تعود أن يرسلها إليها ليلة سعده بها ، ومعها من اللحم والفراخ والبط والسمك والفواكه من كل نوع والخمر المعتقة فضلاً عن الحشيش والأفيون اللذان تهواهما هانم القرعة .
إنه يومه الوحيد الذى سيقضيه مع هانم القرعة وصبيتاها والنساء الحور اللاتى يخدمنها ويفرفشن السهرة بالرقص والغناء ، والطبل والصاجات ، إنه وحده هو الملك .
لا يحب عبده البلقينى حارة اليمانى كانت دائماً مظلمة وضيقة أكثر من اللازم وتكثر فيها المنحنيات وطولها تملؤه المطالع والمنازل ، مما يعرضه إلى مالا لزوم له من اللصوص والسكارى والشحاذين ، لكن لا باس وهوعبده البلقينى الأشهر بين المعلمين الكبار أن يطرق هذه الحارة ، فمن يستطيع أن يعترض طريقه منهم عندما يرون وجهه ويعرفونه ، لكنه يخشى بلا شك خصومه ، ستثور الأسئلة وسط المعلمين فى المدينة حتى تصل إلى كبار التجار فى القاهرة ، لماذا يسلك المعلم عبده البلقينى هذا الطريق ؟ ومع السؤال ستكثر الإشاعات وقد تؤثر على حجم مبيعات إنتاجه الذى يصدره تجار القاهرة إلى أرجاء العالم المعمور ، لكنه مضطر اليوم ، لقد أخذه الشوق وحركته الصاجات ..
سلح عبده البلقينى نفسه جيداً بنبوت إضافى ومسدس خبأه فى حذائه وآخر فى ظهره ، وسار متخطياً حارة اليمانى مختصراً كل الطرق ليصل إلى هانم القرعة بسرعة قبل أن يلحظه الرقباء ، حمل معه كبشة من الريالات أعدها ليلقيها إلى المعترضين من الشحاذين حتى ينصرفوا بلا سلام ولا كلام ، لكنه تذكر أن دعوة الشحاذين له ستتبعه على الفور هجمة من بعض اللصوص ليسلبوه ما معه ، وقد يقتلوه فآثر أن يحتفظ بكبشة الريالات فى جيبه ، سيتحمل دعواتهم عليه ، ولكن كيف سيخفى هيبته وقسوته ، وضع عبده البلقينى حداً لهواجسه وسار رافعاً رأسه وقامته بخطى واسعة فى منتصف الطريق تحسباً لأى هجوم مفاجئ وفى يده نبوت ظاهر وجاهز لرد الهجوم فوراً ، أطاروا ثباته ونبوته الشحاذون من حوله واختبأ اللصوص وترقبوا هذا القادم السافر التحدى ، أخذ عبده البلقينى يتخطى نهاية حارة اليمانى وإذا بعم زوزو يخرج إليه وقد ازدان وجهه بالألوان الصاخبة وعلا صدره ومشى أمامه كما تمشى النساء ، يشلح له فى الظلام مؤخرته ويعترض نبوته ، بأصابعة الناعمة ، اغتاظ عبده البلقينى وازداد نفوره ، لكزه فى صدره فطوحه وكومه فنزل متدحرجا حتى وصل على أعتاب بيته ، عندما رأت اللصوص هذه اللكزة أسرع المختبئون إلى الفرار والمراقبون إلى الاختباء ، تقنفذ الشحاذون .
تقدم عبده البلقينى وقد زاد تشاؤمه حتى تخطى حارة اليمانى ووقف أمام محل بقالة ، يأخذ أنفاسه اللاهثة إلى الجلوس على الدكة حتى يلملم هواجسه ، طلب زجاجة سباتس ، لم يقدر أن يشربها كلها ، وضعها بجانبه … أخذت أنفاسه تهدأ ، أسرع إليه الشوق وتسلل رويداً رويداً حتى اتقدت روحه للقاء هانم القرعة ، انتصب ، امتلأ وجهه بالوهج وبرقت عيناه وطلعت هيبته عليه ، من بعيد بان له نورالجسد وهو يرفرف متشوقاً إليه ، أخذ يحدث نفسه : ما لهذا الجسد صار وردياً اليوم ؟ وماله قد نزل إلى الطريق ، يبوح بعطره ؟ يالك من عاشقة يا هانم القرعة ! عندما اقترب شيئا فشيئاً ، لم تكن هانم القرعة موجودة ولا كانت جالسة على عتبة بيتها ، ما هذا يا الله ؟ ما هذا يا بدوى .. يا دسوقى ؟ الله .. الله .. هل غيرت هانم القرعة بيتها كما غيرت جسدها ؟ ما هذا الجمال يا عبده ؟ الجسد يكاد يتطاير وينزل عليك بكنوزه ويحيطك … آه … آه …
مقالات تهمك: