لم تعد الديمقراطية اختراعاً عجيباً أو غريبا يصعب تشغيله واستخدامه، وإنما باتت قواعدها وإجراءاتها من بديهيات الزمن الراهن، إلا في العالم العربي. ولا يشعر المرء بمرارة غياب هذه البديهيات، إلا عندما تطأ قدماه أرض دولةٍ تتمتع بالديمقراطية، فيشعر بالفارقين، الزمني والسياسي اللذين يفصلان المنطقة عن غيرها من المناطق التي سبقتها إلى استلهام تلك البديهيات وتطبيقها.
وفي الوقت الذي تحرّك فيه قطار الديمقراطية، وجاب العالم من شرقه إلى غربه، لا تزال محطته العربية معطلة، فيضطر المسافر أن يغادرها مضطراً إلى محطة أخرى، ربما يجد فيها عزاء لنفسه، ولو مؤقتا.
زرت في الأسابيع القليلة الماضية عدة مدن عربية وغربية، في مهمات بحثية، ومن بين فوارق عديدة، يستوقفك ذلك الشعور بالثقة والاطمئنان، عندما تطأ قدماك دولةً غربيةً، تتمتع بديمقراطية راسخة، مثل بريطانيا أو فرنسا أو أميركا.
ولا يتعلق الأمر فحسب بالإحساس الحقيقي بالحرية وحكم القانون، وإنْ كنت فقط زائراً، ولست مواطناً أو مقيماً، وإنما أيضا بطريقة التعامل، سواء مع مواطني تلك الدول أو مسؤوليها، والتي تعكس فكرة حكم القانون واحترام الخصوصية.
لا أقول ذلك تقليلاً من سلوكيات العرب وأخلاقياتهم، وإنما لأوضح أن ثمّة رابطاً وثيقاً بين تمتع الشعب بالحرية والعدالة، وبين سلوكياته وأخلاقه.
وعلى عكس ما قد يرّوج بعضهم أن الربيع العربي قد أطلق عقال المجتمعات العربية من دون رادع، بحيث أصبحت الحرية مرادفاً للفوضى وعدم الاستقرار، فإن كثيرا من السلوكيات الراقية والأفكار البناءة قد ظهرت في أثناء الثورات والانتفاضات، وعلى خلفيتهما.
ومن يعود بالذاكرة إلى الأيام الأولى للثورة المصرية يكتشف هذه الحقيقة بسهولة، وذلك حين انهمك الشباب في حملة تنظيف ميدان التحرير بعد خلع حسني مبارك، أو عدم وجود حالات تحرّش خلال فترة المظاهرات، وذلك في بلد معروف بحيازته أعلي معدلات التحرّش في المنطقة.
من بديهيات الديمقراطية أن يقنع الجميع بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يجوز لأحد أن يمارس استعلاء سياسياً على الآخر. ومن بديهيات الديمقراطية أن الحاكم المنتخب مجرّد خادم لمن انتخبوه، وأنه لا يمكن أن يستمر في منصبه من دون حيازة رضا مواطنيه.
ومن بديهيات الديمقراطية أن الجميع أحرارٌ في عقائدهم وخياراتهم وقراراتهم، وأنه لا وصاية عليهم لا من مؤسسةٍ ولا من شخص. ومن بديهيات الديمقراطية أن الانتخابات، وليس شيئا آخر غيرها، هي الوسيلة الوحيدة لتبادل السلطة وتداولها.
ومن بديهيات الديمقراطية أن المؤسسة العسكرية لا يجب أن يكون لها أي دور في الحياة السياسية، وأنها يجب أن تخضع لمحاسبة المؤسسات المنتخبة ورقابتها في كل شيء، بدءاً من ميزانياتها مروراً بهيكلتها وانتهاء بقراراتها.
ومن بديهيات الديمقراطية حرية تشكيل الأحزاب وحرية التجمع وحرية الكلام، حتى بما قد يخالف السلطة القائمة. ومن بديهيات الديمقراطية ألا يُقمع شخصٌ أو حزبٌ لأي سبب سياسي أو إيديولوجي أو عقائدي.. إلخ.
تلك البديهيات، وغيرها، باتت من المعلوم من السياسة بالضرورة في بلدانٍ عديدة. ولكنه للأسف لا يزال من الغرائب والعجائب، وأحياناً المحرّمات، في العالم العربي.
فلا حرية، ولا مساواة، ولا عدالة، ولا مواطنة، ولا انتخابات نزيهة، ولا إمكانية للتنافس الطبيعي والسلمي على السلطة وتداولها، ولا حرية للتجمع. ولا حرية للتظاهر، ولا حرية للخلاف مع الحاكم، ولا مجال لمحاسبته ومراقبة أدائه، ولا إمكانية لتسييد الشعب وليس السلطة.. إلخ.
يرفض الحكام العرب تلك البديهيات، فيدفعون شبابهم وشعوبهم إلى ارتكاب ما يرونهم هم من المحرّمات، وهو الانتفاضات والثورات، فينقلبون عليهم بعد ذلك باستخدام كل شيء، بدءاً من قنابل الغاز المسّيلة للدموع وبالهراوات، إلى أن وصل الأمر في بلدان، مثل سورية، إلى قصفهم بالمدافع والدبابات.