كونستانتان فيرجيل جيورجيو (1907 ـ 1982م )، روائي روماني الأصل، ولد في( أرسبوين ينمتز برومانيا)، وتلقى علومه في مدرسة عسكرية، ثم بكلية آداب (بوخارست)، وغادر بلاده عام 1944م ليستقر في فرنسا لحين وفاته عام 1982عن عمر يناهز 75 عاما، ورغم قلة كتباته ومؤلفاته ألا انه دخل تاريخ الرواية من أبوابها الواسعة برائعته الشهيرة (الساعة الخامسة والعشرون) التي نشرت عام 1949م وحققت له شهرة واسعة، وحازت هذه الرواية على جائزة نوبل في الآداب لتخلد اسمه في عالم الأدب.
المحتويات
العمدة والكاتب
ورغم شهرته الواسعة ومكانته المرموقة في الأوساط الثقافية، فضل البقاء في فرنسا دون أن يحاول الرجوع إلى موطنه في (رومانيا)، في وقت الذي لم تشر أية معلومة بكون بلاده قدمت له عروض أو استضافة لزيارتها، لأسباب غير معروفه وهذه القطيعة هي التي حملت (كونستانتان فيرجيل جيورجيو ) ان يكتب رسالة إلى عمدة باريس (جاك شيراك) آنذاك، يرجو فيها إن يمتلك قبرا في (باريس) بعد إن أصبح على بعد خطوة من الموت، فاثر استلام (جاك شيراك) رسالته لم يرد على الروائي (جيورجيو) إلا بعد حين، ليفاجئه (جاك شيراك) ذات يوم حين دق باب منزله.
وما أن فتح له (جيورجيو) الباب، حتى فوجئ بشخص (جاك شيراك) واقفا إمامه، فطلب شيراك منه أن يصطحبه في نزهة قصيرة، فأخذه إلى مقبرة (العظماء) في فرنسا، وعندما دخلا أشار (شيراك) إلى فسحة كبيرة مزروعة ومنسقة بجمالية ومزينة بالورود ، وفي وسطها قبر من الرخام الذهبي.
وقال له: “يؤسفني أن تكون علاقتنا عبر هذا المكان – مشيرا إلى القبر – ولكن هذا مآلنا جميعا، وكم تمنيت لو انك طلبت منا شيئا غير القبر، فأنت تستحق أي شيء تطلبه، ولكن (جيورجيو) لم يطلب من فرنسا أكثر من ذلك، وقال له عمدة باريس (جاك شيراك ) بالحرف الواحد:
((بعد عمر طويل ستفخر باريس ان تضم رفات روائي عظيم مثلك))
وقال له: ذاك قبر( نابليون بونابرت) وذاك (فيكتور هيجو) و الأخر لـ(جان جاك روسو) وهنا يرقد كل من( فولتير) و( شارل ديغول) و( المهندس ايفل) و(جان دارك) و (سارتر) و (بابلو بيكاسو) …وسواهم.
هكذا حضنت فرنسا المبدعين في الحضارة، وهكذا تجلو قيم الدول التي تحترم المبدعين عندما تقوم بتكريم أو فعل شيء ما من اجل العظماء من المفكرين والأدباء والفنانين، بينما تنسى بعض دول هؤلاء العظام مآثرهم، وهنا لا بد من ذكر مقولة رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية (ونستون تشرشل ) بحق أديبهم الخالد وليم شكسبير حين قال :
(( ان بريطانيا مستعدة أن تخسر كل مستعمراتها ولا تخسر شكسبير)).
فباريس التي احتضنت (كونستانتان فيرجيل جيورجيو ) وكسواه من احتضنتهم فرنسا من المبدعين والمفكرين والفنانين جاء لان فرنسا تدرك قيمة هؤلاء، فكيف لا تحتضن (جيورجيو) الذي قدم للعالم واحدة من أجمل روايات العصر، تكرم عليها باستحقاق جائزة( نوبل) للآداب.
الرواية الأهم
فرواية (الساعة الخامسة والعشرون)، رواية طويلة وهى من أعظم الأعمال الأدبية التي تناولت بالتحليل المستفيض والتصوير الدقيق مأساة الحرب العالمية الثانية، والضياع المتمثل في انهيار الحضارة الغربية وسحق إنسانية الإنسان، فهي تحكي قهر الإنسان وآلامه ومعاناته ، فالرواية تنقلنا باستفاضة من زمن الحداثة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فالكاتب (جيورجيو) يصور في روايته هذه ملايين من الناس وهم يقتلون بوحشية في حروب الحرب العالمية الثانية، التي كانوا وقودا لها، ولا يعلمون كيف ولماذا ومن أشعلها!
ومن هنا تأتي أهمية هذه الرواية بكونها واحدة من الروايات التي تدين الحروب، إذ صورت الحروب والحزن الإنساني القاتل معبرا فيها عن حال العالم الذي أشرف بالدخول إلى جحيم الساعة الخامسة والعشرين وهي ساعة الجحيم بعينه، جحيم الذي أشعل نيرانه العالم كله ليدخل ساعته الخامسة والعشرين، إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عاملة لا تفكر ولا تعمل ولا وظيفة لها غير الإشراف على الآلات وصيانتها وتنظيفها فحسب، فالرواية تمثل نموذجا حقيقيا للإنسان المعاصر الذي يعيش بين فكي الآلة، في وقت الذي يمضي ويتسارع الوقت والأحداث وهو مثقل بالانهزام والانغلاق والانكفاء على الذات لا يملك إلا أن يتسكع على هامش الأحداث منهمكا في الدوران حول نفسه والآلات.
فشخصيات الرواية تقدم الحال ونقيضه، ضمن تركيب سردي ممتاز رائع، يتعقب المؤلف مصير هذه الشخصيات من خلال الأحداث، فالحدث في الرواية متحكم بدوام التغيير، فنجد صور مفعمة بالتراجيديات مؤلمة ومتعاقبة وشديدة التناقض حيث تتشابك شخصيات الرواية وهي تنتقل من حال إلى حال نقيضه، إذ تصبح الضحية جلادا، فنجد يعدم المحقق (دميان) من طرف المحاكم الشيوعية التي يترأسها اليهودي (ماركو غولدنبرغ) ويلقى وسط كومة من القاذورات، وينتحر (أيوردان) النازي بعد أن تجتاح القوات الروسية ألمانيا، ويتعرض الكاتب (تريان كوروغا) إلى ترحيلات كثيرة بين المعتقلات، ويقتل في أحد سجون الأسرى، وينال أبوه الكاهن( كوروغا) عقابا لأنه اتهم من الشيوعيين بأنه صلى في كنيسته لجماعة من الثوار الذين اعتبروا من الفاشيين، ثم يتهم من طرف الأمريكيين بأنه نازي، ويموت في أحد السجون التي يشرفون عليها، أما الشخصية التي تتجلى من خلالها موضع الأساسي للرواية، هي (أيوهان موريتز) فتشهد تجارب إذلال في رومانيا وهنغاريا وألمانيا، وتتنقل بين عشرات المعتقلات.. يقول (جيورجيو) في احد مقاطع الرواية:
“إنني أشعر أن حدثا خطيرا قد وقع حولنا، إنني أجهل أين انفجر.. ومتى بدأ .. وكم يدوم ؟
لكنني أشعر بوجوده ، لقد أخذتنا الدوامة.. ولسوف تمزق هذه الدوامة أجسادنا وتحطم عظامنا الواحد تلو الأخر .. إنني أشعر بهذا الحدث الهائل، شعورا لا يضاهيه إلا إحساس الجرذان المسبق الذي يدعوهم إلى الفرار، ونحن في مركب على وشك الغرق ، لن يكون لنا أي مأوى في أي مكان في العالم”.
هناك نهاية تنتظرنا!
فهنا يصور لنا الكاتب (كونستانتان جيورجيو) بطل رواية (الساعة الخامسة والعشرون) بكونه تحول إلى إنسان يبحث عن نور في نهاية النفق ينتقل من سجن إلى سجن آخر أكثر وحشية وحين يجد نفسه محني الظهر أمام الآلة، لا يتوفر على فسحة من التفكير والتأمل، وهنا يداهمه الإحساس بأنه دخل في (الساعة الخامسة والعشرين) تلك الساعة التي تفجرت فيها الحضارة المدنية والثورة التكنولوجية وحولت البشر إلى مجرد أرقام وآلات وأوراق وأختام.
ويصور اعتقاد (جورجيو) بان سبب المأساة هو أتي من خلال التقدم الآلي المجرد من القيم، وتفوق الآلة الطاغي على الإنسان وذبول إنسانيته أمامها، فكل هذا سيفضى بالمجتمع البشرى إلى نهاية مرعبة، لان ما سيفرزه هذا الواقع – لا محال – سينتج لنا سلالات من نوع خاص، لا هي بشرية، ولا هي آلية ، أسماها المؤلف ( الرقيق التقني ) وبحكم كثرة الرقيق التقني، فإنه سوف يثورون للسيطرة على العالم وسينتصرون فعلا، ويعود البشر الحقيقيون أقلية ضئيلة على الأرض اذ يقول (جيورجيو) في الرواية:
“… المجتمع الحديث الذي يحوى على رجل( واحد ) مقابل كل( ثلاثين )عبدا تقنيا ، ينبغي أن ينظم وأن يعمل حسب النظم التقنية لأنه مجتمع خلق وبني على احتياجات( ميكانيكية ) وليست (إنسانية) ، وهنا تبدأ الفاجعة!
إن المخلوقات البشرية مرغمة على الحياة والتصرف وفق (قوانين تقنية) غريبة عن (القوانين الإنسانية)، وعندما يثور العبيد (الآليون) فماذا ستكون النتيجة؟
..إن هذه الثورة ستحدث على سطح الأرض كلها ، ولن نستطيع الاختفاء، لا في الغابات .. ولا في الجزر.. ولا في أي مكان أخر .. لن تستطيع أية أمة في العالم أن تحمينا!
سوف تشكل جيوش العالم كله من (المأجورين) ويكافحون من أجل تدعيم المجتمع الآلي الذي لن تعيش فيه الفردية، ولعل هذا العصر هو الفترة الأكثر ظلمة في تاريخ البشرية ، إذ لم يحدث لحد الآن أن احتقر الإنسان إلى هذا الحد!
والحياة البشرية لم تعد لها قيمة إلا بوصفها مصدر حركة ، والقياسات أضحت علمية محضة ، وهذا هو قانون بربريتنا الآلية المظلمة ولسوف نصبح بعد النصر الكلى عبيدا آليين. ”
هذه هي روعة الكتاب في هذه الرواية، حيث يضع النقاط على الحروف بشكل واضح ودون أية لبس أو مأربه، فهذا التصور الذي قدمه (جيورجيو) إعقاب الحرب العالمية الثانية تتجلى صورته في واقعنا و تفسر حال البشرية اليوم، وبالرغم من أن (جيورجيو) كتب الرواية ولم تكن في أيامه، العلم وتكنولوجيا رغم تقدمها آنذاك، إن وصلت على ما وصلت إليه التقنية وتكنولوجيا في أيامنا هذه، في ظل التطور الهائل في أجهزة الاتصالات من الكمبيوتر و أيبت وموبايل والتلفاز والحاسوب وما إلى ذلك، إلا أنه وضع أسس التنبؤ بحال العالم هذه الأيام، فلقد أصبح الإنسان في عالمنا اليوم (عبيد وخدم لأجهزة والآلات الاتصالات) وهم يؤدون أعمالهم من خلال الشاشة ولوحة المفاتيح وينتشرون في كل دوائر العمل من دون استثناء وفي كل دول ومدن العالم، ونادرا ما ترى مسئولا أو إداريا في أية بقعة من الأرض، إلا وتراه يداعب لوحة مفاتيح الكمبيوتر أو الموبايل او التلفاز، ليتحول الإنسان إلى عبد لها، اخذ منه إرادتهم و شل قدرتهم على الابتكار والتفكير والبناء، ومات فيهم القيم والمشاعر الإنسانية بشكل كبير!
فوق الزمان والأحلام
فـ(كونستانتان جيورجيو) هنا يصور إنسان (الساعة الخامسة والعشرين) بكونه إنسان يبحث عن زمن بعيدا عن الوجوه المزيفة بالأقنعة التنكرية التي لا تسر، وتسلك الطريق باتجاه القبح ليس إلا، فهو يبحث عن زمن لا يسرق منه الحب وجمال الحياة، يرغب أن يضبط إيقاع الزمن، ولكن لا يجد سبيلا له، حيث ضجيج الحياة التي تدور وتدور بلا توقف، إن وقع خطى الحياة اليومية العصرية تتسارع باتجاه (الساعة الخامسة والعشرين) والتي أوشكت على بدأ دقائقها الأولى، حيث يختلط الماضي والحاضر وتختلط الأوراق والأقدار والطرق تحت مفهوم (إما أن أكون أو لا أكون) وهو شعار كل المتقاتلين الاستحواذيين والظالمين والفاسدين مثلهم مثل المقهورين والمضطهدين والمستضعفين، فكل طرقهم أصبحت تؤدي إلى زنزانة الروح على غفلة من أرواحهم، بكون الإنسان بات يسير مسرعا باتجاه حافة الهاوية، بعد أن أصبح صوت الحرب والرصاص هو إيقاع الزمن وفي وقت الذي أصبح صوت الحب وصوت السلام خافتا حتى لا يكاد إن يسمع في المطلق!
فـ(الساعة الخامسة والعشرين) رواية الأحلام المهدورة لملايين النفوس البريئة ممن زهقت دمائهم في معارك لا معنى لها، أنها رواية الشهوة التي تقضي بسلخ مواطن مسالم من حبيبته وأسرته ووطنه، فيجره الظلم الأعمى من معتقل إلى آخر، وتتداول على تجريمه دول وجيوش، ويعانق جراحا غائرة من معاناة رجال ونساء وأطفال وشيوخ، لم يقترفوا ذنبا سوى أنهم ولدوا مغايرين للمحتل ، لم يشفع لهم رضوخهم له ولم تنجد لهم، لا أرض ولا سماء. بعد إن أصبح الإنسان ذليلا للآلة يقودها وحوشا مفترسة، فبعد إن عجز الإنسان القضاء على الوحوش المفترسة، ظهرت سلالة من الحيوانات المفترسة كما يصفها الكاتب (كونستانتان جيورجيو) فيقول:
“… إن الإنسان لم يستطع السيطرة على كل الحيوانات المفترسة، ليعود في الآونة الأخيرة يظهر حيوانا جديدا على سطح الأرض ، وهذا الحيوان الجديد اسمه (المواطنون) ، أنهم لا يعيشون في الغابات ولا في الأدغال ولكن في المكاتب ، ومع ذلك فإنهم أشد قسوة ووحشية من الحيوانات المتوحشة في الأدغال لقد ولدوا مع اتحاد الرجل مع الآلات ، أنهم نوع من أبناء السفاح …”!
وهم أقوى الأصول والأجناس الموجودة الآن على سطح الأرض، إن وجههم يشبه وجه الرجل، بل إن المرء غالبا ما يخلط بينهم، ولكن ما إن يعد المرء حتى يدرك بعد حين أنهم لا يتصرفون كما يتصرف الرجل بل كما تتصرف الآلات، إن لهم مقاييس وأجهزة تشبه الساعات بدلا من القلوب وأدمغتهم نوع من الآلة ، فهم بين الآلة والإنسان ، ليسوا من هذه ولا ذاك ، إن لهم رغبات الوحوش الضارية مع أنهم ليسوا وحوشاً ضارية بل إنهم (مواطنون) … إنها سلالة اكتسحت الأرض…”
والنتيجة التي يستخلصها (جيورجيو) من وجود هذه السلالة هي :
” … إن كلمة (مواطن) لم تعد مرادفة لمعنى (إنسان)…! ”
إذ أن تناقض في السلوك يعم في غريزة هذا الإنسان وهنا نشاهد احد شخصيات الرواية المتمثلة بـ(ايوردان) فهو يطلق علي حملات( التعذيب ) تسمية (الحفلات) في الوقت الذي يطعم طيوره بيديه ويقف طويلا ليتأملها وهو فرح بحركتها، هذه هي قمة التناقض في السلوك، فأمثال (ايوردان) ممن يمتلك رغبات الوحوش الضارية مع أنهم ليسوا وحوشاً ضارية بل إنهم (مواطنون) اليوم نجد من أمثاله يسود في كل مجتمعاتنا إنها سلالة اكتسحت الأرض ليصبحوا علة العلل على الإنسانية!
ويعرض (جيورجيو) في روايته الطويلة هذه ضروب لا حدود لها من إفلاس القيم والضياع التي ستمنى البشرية في كل ناحية ، في الاجتماع والسياسة ، في الإبداع والشعر وفى الإنسانية و فى كل شيء ، ويقول:
“… إن كل ما تستطيع الحضارة تقديمه للإنسان هي الأغلال و الأصفاد والقيود لا غير …! ”
لنجد في الرواية صورا شديدة الإيلام عن الحرب والسجون والتعذيب، ومرارة الحزن البشري عندما لا يطاق احتمالها، ومن آلام العصر في الحروب .. وصور ملايين من البشر وهم يقتلون بوحشية دفاعا عن مصالح تجار الحروب.
وتأتي أهمية هذه الرواية لما لها واقع في حياتنا المعاصرة وما يشهده عالمنا اليوم من حروب ودمار وعبث واللامبالاة بمصير البشرية على الأرض، ومن هنا ارتأيت عرضها للقارئ لعلا يجد متنفسا لما تعانيه البشرية اليوم من حالة تفاقم الاضطرابات والفوضى وجرائم قتل وإبادة جماعية والتميز الديني والمذهبي والقومي، فإذ ما استمرت المجتمعات البشرية تسير وفق هذا المنهج البربري، لا محال سندخل الساعة الخامسة والعشرين!
محاور الأحداث
ومن هنا سأعرض وبالمختصر لمحور الإحداث الرواية والتي يكمن لنا إيجازها بشكل الأتي :
(جوهان موريتز)، هي شخصية التي تتجلى من خلالها موضع الأساسي للرواية،فهو شاب مزارع بسيط، يقع فريسة وضحية الاحتلالين ( السوفيتي والأميركي) لأوربا الوسطى حيث تم إرسال(جوهان موريتز)، إلى معسكرات التعذيب من قبل ضابط يشتهي زوجته الجميلة (سوزان) في البداية يعامل على أساس أنه (يهودي) وبعدها تتم تبرئته واعتباره من أصل آري أصيل، ويجبرونه على خدمة القوات النازية كنموذج للدعاية الألمانية في حربها، ولا تنتهي معاناة (جوهان موريتز)، بانتهاء الحرب، بل تستمر آلامه.
ويسجن بعد الحرب، ويضرب من قبل الضباط (الروس)، وتتم محاكمته من قبل قوات ( التحالف ) بسبب عمله مع (النازيين الألمان )، وفي الرواية تظهر شخصية أخرى، وهي (وتريان- ابن القس كوروغا)، وهو روائي ودبلوماسي شهير، يتم القبض عليه باعتباره أحد أعداء الـ(يوغسلاف)، وعندما يتعرف عليه (جوهان موريتز)، في السجن، يبدأ البطلان رحلة العذاب في السجون والمعتقلات. وتفترق مصائرهما في نهاية المطاف. (تريان) يموت في معسكرات التعذيب، فيما يجبر الأميركيون (جوهان موريتز)، على الانخراط في الجيش، أو البقاء في معسكرات التعذيب مع عائلته باعتباره مواطنا من بلد معاد.
في تلك اللحظة بالذات أيقن (جوهان موريتز)، بأنه بدأ يفقد حلمه، ذلك العزاء الذي كان يغذي روحه إثناء سنوات السجن والأشغال الشاقة، وهكذا لا يجد بطل الرواية النور في نهاية النفق، وينتقل من سجن إلى آخر أكثر وحشية وإجراما، ويجبر على تنفيذ الأعمال الشاقة من حفر الخنادق إلى قطع أشجار الغابات في الشتاء البارد، ولكنه لا يزال يحلم بنهاية هذا الكابوس المريع من خلال عودته إلى بيته وأبنائه، وتستمر معاناته في الأعمال الشاقة، حين يجد نفسه محني الظهر أمام الآلة.
لا يتوفر على فسحة من التفكير والتأمل، وهنا يداهمه الإحساس بأنه دخل في (الساعة الخامسة والعشرين )، تلك الساعة التي ما عاد يجدي معها ظهور (المسيح)، أي الساعة التي تفجرت فيها الحضارة المدنية والثورة التكنولوجية وحولت البشر إلى مجرد أرقام وآلات وأوراق وأختام، ويقول الكاتب (كونستانتان جيورجيو) على لسان مصلح اجتماعي تقمص شخصيته في الرواية وأطلق عليه اسم (كوروغا) حيث يقول :
“… لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين، وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبدا، والتي لن يحل بعدها يوم جديد، إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عاملة لا تفكر ولا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها …”.
ويستعير (كونستانتان جيورجيو) كثيرا من الأمثلة الأحداث الصاخبة لرسم صورة عالمنا الجديد الذي تسخر فيه الأحاسيس البشرية كلها لضمان استمرارية هذا النظام.
بإسم عامة الناس
والجميل في هذه الرواية أن الروائي (كونستانتان جيورجيو) لم يختر شخصية بطله واحدا من المثقفين بل اختاره من عامّة الناس، بل وهو ينتمي إلى فئة من الناس توصف بالتخلف والسذاجة لأنها تبحث عن حياة غير الحياة الآلية الروتينية التي تخدم مصالح أصحاب رؤوس الأموال، وهكذا يمتد هذا الجشع والظلم على بيت ريفي صغير يسكنه (جوهان موريتز) مع زوجته الفلاحة الجميلة (سوزان) في إحدى القرى (الرومانية) النائية، ومن هنا انطلقت كل المشاعر والأحاسيس أي أن الظلم لم يستثن أحدا لا المدينة.. ولا الريف .. لا المثقفين.. ولا عامة الناس، ويصل الظلم إلى أقصى حدوده عندما يقوم قائد الشرطة باعتقاله في أحد المعسكرات الرومانية حتى يتمكَّن من الاستفراد بزوجته الجميلة أي يطعن في شرفه ويبعده عنها ليفسح المجال أمام شهواته ونزواته غير الأخلاقية.
ولا تنتهي معاناته إلى هذا الحد حتى إذا احتلت الجيوش (النازية ) رومانيا، تقوم بنقل (جوهان موريتز)، من معسكر اعتقال إلى آخر لينتهي معه المطاف في مصنع للأزرار تابع للجيش (النازي) يعمل فيه بطريقة السخرة، حيث تتلخص وظيفته هناك بالوقوف أمام سير متحرك تمر فوقه علب كرتونية مملوءة بالأزرار المصنعة فيقوم بترتيبها فوق بعضها على أحد طرفي السير استعدادا لشحنها، وتكون سرعة وصول العلب على السير موافقة لأقصى سرعة يمكن لـ(جوهان موريتز)، أن يرفع العلب من فوقه، وأثناء انهماكه في هذا العمل المرهق، يقوم بحك رأسه فيخسر أثناء ذلك بضع ثوانٍ – فحسب – من آلية العمل مما يؤدي إلى تراكم العلب فوق السير وتوقف العمل في المصنع كله، وكان ما ناله (جوهان موريتز)، من هذا الخطأ الشنيع أن خضع لأقسى أنواع التعذيب والاضطهاد، هذه هي العقوبة التي تنتظر كل من يتقاعس أو يتلكأ عن أداء عمله في خدمة الآلة، وعلى ضوء هذه الخطوط تتشعب إحداث الرواية فيدخلنا (جيورجيو) في سرد وقائع مؤلمه وتفاصيل حياة من يوميات حرب العالمية الثانية بما أفرزته من انهيار القيم الإنسانية إمام طاغوت المتغطرسين لفرض إرادتهم على الشعوب ليجروا بحروبهم ويلات لكل المجتمعات البشرية في العالم ولتكون المحصلة الخيرة لها هي دمار البشرية ليس إلا ..!
ويمكن القول إن هذا العمل الأدبي لا يصنف ضمن العمل الروائي بل عمل ملحمي بكل معانيها، لان العمل الروائي لـ(ساعة الخامسة والعشرين ) عمل يغطي عصورا ومراحل من تاريخ البشرية والحروب والاحتلال.
فمن خلال إحداث الرواية التي تنفجر في صفحات الرواية، تطرح لنا أسئلة كثيرة شائكة تخز العقل والروح وتدمي الإنسانية فينا، لتظهر لنا كم طغى العقل المتغطرس على كل تفاصيل الحياة…! فلقد صنع الإنسان الآلة ليعود لا لكي (تخدمه) بل لكي (يعبدها) بمحض إرادته ، وأطلق لها العنان لتروض الإنسان وتحويله إلى شيء ما وكيفما تشاء هي لا هو، فحولته إلى شيء يسحق داخلها ، ليتحول الإنسان بعد حين إلى مجرد رقم ما في غرف الإدارات و ومكاتب ودوائر المدنية والعسكرية والأمنية في العالم بل في كل شيء.
فالرواية تأكد بأسلوبها، بان وقت التدارك الأخطاء قد فات…! لان عقارب الآلة الجهنمية بدءا بمصانع السلاح وانتهاء بمصانع الاتصالات التي صنعناها قد دارت لتطحن إنسانيتنا ، ولن تتوقف إلا بزوال ما تبقى فينا من علاقة باهتة بالإنسان الذي تمنينا أن نكونه!
فعالمنا يسير سير أعمى، ونحن نمضي غارقين في أتون الحروب والصراعات والصدامات الرهيبة بعد إن دخلنا (الساعة الخامسة والعشرين) تلك الساعة التي يتعذر فيها على الإنسان النجاة بحياته من هلاك مؤكد، هي اللحظة التي ستكون فيها كل محاولة لإنقاذه عديمة الجدوى، إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي بعد الساعة الأخيرة، أنها الساعة الخامسة والعشرين كما أشارت ساعة جيورجيو .
فواد الكنجي – الحوار المتمدن