فيما ظنت إيران أن تعاظم تدويل الأزمات الإقليمية يحجز لها مقعداً على طاولة المساومات إذا بالدولتَين الكبريَين تتفاهمان على الحدّ من دورها في المنطقة.
بقلم: عبد الوهاب بدرخان
عندما أطلق قاسم سليماني تهديده بأن البحر الأحمر لم يعد آمناً للملاحة كان يعلن عملياً، على طريقة التنظيمات الإرهابية، مسؤولية إيران عن تعطيل المرور عبر مضيق باب المندب، كإرهاصٍ لإغلاق مضيق هرمز وفقاً لتهديدات رئيسه حسن روحاني.
كان الأخير ربط تهديده باعتزام الولايات المتحدة فرض عقوبات على تصدير النفط الإيراني بحلول نوفمبر المقبل، أما قائد «فيلق القدس» فعزا التعرّض لناقلتي النفط السعوديتَين إلى الوجود الأميركي في المنطقة، وهذه الذريعة الإيرانية الثابتة منذ إنشاء «الجمهورية الإسلامية».
وكان الملاحظ أن سليماني تحدّث كما لو أنه يتجاوز قيادات السلطة والجيش و«الحرس»، أو أنه مخوّل منها، إذ طالب الرئيس الأميركي بـ «أن يتوجّه إليّ لا إلى الرئيس (روحاني)» إذا أراد استخدام لغة التهديد.
تتضح مغازي كلام سليماني عندما يتحدث عن الحرب بل «الحرب غير المتكافئة» التي يقول إن أميركا تعرف قدرات إيران فيها، كذلك حين يقول: «أنتم ستبدأون هذه الحرب لكن نهايتها نحن من سيفرضها».
فالإشارة إلى الحرب غير المتكافئة تعني اعتماد إيران على الميليشيات الإرهابية المتفلّتة من قواعد الاشتباك التقليدية للجيوش، لذلك رأى نظام الملالي أن سليماني هو أفضل من ينطق باسمه في هذه المرحلة، باعتبار أن لـ«فيلقه» مكانة خاصة داخل «الحرس»، كونه المسؤول عن «تصدير الثورة» والميليشيا الأم للميليشيات التي فرّخت من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن.
ولعل طهران أرادت من دفع سليماني إلى الواجهة إطلاق رسالة مفادها أنه هو المكلّف تنفيذ توجيه المرشد علي خامنئي «إذا مُنعت إيران من تصدير نفطها فلن يُصدّر أي نفط من المنطقة». أي أنها تتعامل مع منع تصدير النفط باعتباره «إعلان حرب» عليها وستردّ عليه بحرب تعمّ المنطقة، طالما أن أي حرب متصَوَّرة ستبقى خارج حدود إيران نفسها.
بعد تقاطعات موضوعية مع الولايات المتحدة في حربَي أفغانستان والعراق، وتفاهمات مع إدارة جورج بوش الابن لتقاسم الوصاية على العراق، وتواطؤ مع إدارة باراك اوباما ساهم في تعزيز الوجود الإيراني في سوريا وتمكين الحوثيين من التغوّل في اليمن، تعود طهران إلى ما تعتبره صراعها ومهمتها الأساسيين.
وبما أن الإدارة الأميركية الحالية لم تبدِ أي استعداد لإقامة تفاهمات ولو براغماتية غير رسمية معها، وباتت عقبة أمام توسيع النفوذ الإيراني وتثبيته، فإن ذلك يستوجب إحياء نغمة «إخراج» أميركا من المنطقة.
في حسابات طهران أن ما حصّلته من «نفوذ» كلّفها بضع عشرات مليارات الدولارات وقد عوّضتها بموجب الاتفاق النووي وإفراج إدارة أوباما عن أرصدة مجمّدة.
ولم يكلّفها سوى بضعة آلاف من القتلى أقلّهم من الإيرانيين ومعظمهم من الميليشيات الأفغانية والباكستانية والعراقية واللبنانية، وهذا ثمن ضئيل بمنظور إيديولوجية «الجهاد» و«الشهادة».
غير أن تكاليف مرحلة تثبيت «النفوذ» والحفاظ عليه قد لا تكون محدودة على هذا النحو. فالتطوّرات لم تجرِ وفقاً للجدول الزمني الذي تخيّلته إيران وتمنّته، ولا وفقاً للتوقّعات السياسية والاقتصادية التي ارتسمت لديها غداة التوقيع على الاتفاق النووي.
ففيما راحت تُخرج تدخّلاتها في «العواصم الأربع» العربية إلى العلن كانت العقوبات مستمرة في استنزافها، وفيما راهنت على شراكتها في محاربة «داعش» لتدعيم «شرعية» وجودها في العراق وسوريا كان دعمها للحوثيين في اليمن يضاعف الرفض الدولي لتدخّلاتها.
وفيما تيقّنت بأن تعاظم تدويل الأزمات الإقليمية يحجز لها مقعداً على طاولة المساومات إذا بالدولتَين الكبريَين تتفاهمان على الحدّ من الدور الذي تلعبه في المنطقة.
ربما تستطيع إيران تنفيذ تهديداتها في المضيقين، لكنها في باب المندب تغامر بـ«الحوثيين» كمجرد أدوات ووقود لمغامراتها، أما في مضيق هرمز فمخاطر المجازفة ستكون مباشرة وأكثر إيلاماً.
لا يمكن لأي نظام سياسي أن يتحدّى الخطوط الحمر الدولية (تهديد الملاحة ومنع تدفّق النفط عبر المضايق والتسبب ببلبلة في الأسواق والأسعار) ثم يخرج في النهاية منتصراً وبـ«مكافأة نفوذية» مهما حاول العربدة والتخريب.
لماذا بقي ردّ الفعل الدولي ضعيفاً بعد التعرّض لناقلتيّ النفط السعوديتَين، وحتى بعد إعلان سليماني البحر الأحمر غير آمن؟
ثمة تفسير يقول إن واشنطن لا تريد الانجرار إلى مناورة إيرانية ولا الاعتراف بأمر واقع تسعى طهران إلى فرضه. فالأولوية الآن لتأمين أوسع التزام دولي بعدم شراء النفط الإيراني.
لكن في الأثناء لا بدّ أن تكون الأقمار الاستخبارية الأميركية رصدت مصادر الصواريخ الإيرانية من اليمن ويمكن تقليص الخطر بدعم التحالف العربي لضربها.
- عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني
المصدر: الاتحاد الظبيانية