لا تقتصر المقاومة الكاشفة للفكر الصهيونى الإجرامى وسياساته الإجرامية على المقاومة العربية فحسب بل تمتد إلى الداخل الصهيونى ذاته ويمثل إيلان بابى المؤرخ والناشط الإشتراكى دكتوراه في الدراسات الفلسطينية والأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة البريطانية ومؤسس ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية وهذا المركز مدعم من صاحب السمو الشيخ عبد الله بن زايد، فى سبتمبر 2019، بتمويل من وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، ومن خلال مؤلفاته الفكرية المقاومة للممارسات الإجرامية للكيان الصهيونى نموذجا واضحا لهذه المقاومة ومنها التطهير العرقي لفلسطين، والشرق الأوسط الحديث، وتاريخ لفلسطين الحديثة ارض واحدة وشعبان ، وعشر خرافات عن إسرائيل فى عام 2017 ، وتنطلق مقاومته بالمقاطعة من منطلق فكره القائم كما يعلن أن الضغط على إسرائيل من الخارج أحسن وسيلة لأنهاء أفظع احتلال عرفه التاريخ الحديث وأن الاحتلال الإسرائيلي هو عملية ديناميكية تزداد الأمور سوءًا مع مرور كل يوم .وفضح بمنهجية موضوعية الأكاذيب الصهوينة بنفى مذابحها للشعب الفلسطينى وكشف حقيقة هذا المذابح الإجرامية فى حق الشعب الفلسطينى.
من منطلق المقاومة للكيان الصهيونى الإجرامي ، وإمتدادا للمقاومة نقدم هذه الدراسة الكاشفة للأسس التى يؤسس هذا الكيان ممارساته العنصرية.. حيث تتفجر العنصرية الصهيونية من خلال لاهوت التهويد للقضاء على الحضارة الفلسطينية والترات الإنسانى الفلسطينى وسلب كل ما على الأرض وونهبه وعلى نحو ما أسس له نبى الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في إحدى خطبه في المؤتمر الصهيوني الأول (29–31 أغسطس/ آب 1897): “إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء.. فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسأحرق الآثار التي مرت عليها قرون” ومن هذا المنطلق تعمل العنصرية الصهيونية على اختلاق وصناعة قدس يهودية كما اختلقوا وصنعوا “دولة إسرائيل”، ولا تكتمل هذه ” الدولة ” إلا بتكريس “القدس .. يهودية عاصمة أبدية ” لهم ، وعلى نحو ما يزعم نيتانياهو أن “الشعب اليهودي بنى القدس منذ ثلاثة آلاف سنة ، وهو يبني القدس اليوم “، وعليه و كما يزعم: ” فإن ثلاثين ألف معلم تاريخي يهودي يجب أن نحييها من جديد”، وسعيا لإقامة الهيكل الثالث المزعوم.
ويشكل لاهوت التهويد الغطاء التوراتي لكافة الإجراءات الإجرامية التدميرية العرقية لكل الآثار الفلسطينية ومحو المقدسات الإسلامية والمسيحية والهجمات الاستيطانية المتسارعة والجارية على الأرض الآن بغية تحويل فلسطين إلى “حدائق ومدن توراتية” وفكرة الحدائق التوراتية تأتى تأكيدا للاهوت التهويد حيث سينشىء لكل مالم يجدوه فى الواقع والحفريات من الآثار المزعومة مما تحدثت عنه التوراة زورا نموذجا فوق الأرض المنهوبة من أصحابها الفلسطينيين لتتحقق مقولة نيتانياهو فى إحياء “الثلاثين ألف معلم التاريخى المزعومة”، وبالتالى يتم من خلال التهويد تزوير الشواهد التاريخية والحضارية الفلسطينية . وفى هذا الإطار وهذا السياق، أعلنت مؤسسة “الأقصى للوقف والتراث” في بيان أن سلطات الاحتلال صادقت خلال شهر يونيو 2012 على ميزانية قدرها أربعة مليون شيكل (أكثر من مليون دولار)، لإقامة مركز تهويدي تحت اسم «متحف ضوئي سمعي»، في موقع في جوف الأرض ، في مدخل حي وادي حلوة ، الذي يبعد عشرات الأمتار عن جنوب المسجد الأقصى والموقع المستهدف هو عبارة عن بئر مائي تاريخي وتجويف تحت الأرض يُرّجح أنه من الفترة اليبوسية العربية، واليبوسيون هم قبيلة كنعانية سكنت القدس حوالي العام 3000 قبل الميلاد، وسيتم ربط هذا المتحف بشبكة الأنفاق التي يحفرها الاحتلال أسفل وفي محيط المسجد.
ويأتي هذا المخطط ضمن مشروع إقامة سبعة أبنية تهويدية تلمودية حول المسجد الأقصى تحت مسمى “مرافق الهيك” وقالت المؤسسة إن الاحتلال يجري حفريات واسعة في الموقع المذكور وجواره كجزء من التهيئة لبناء المتحف التهويدي، كذلك في المنطقة المقابلة التي سيرتبط بها، مشيرة إلى أن وزارة السياحة الإسرائيلية وبلدية القدس تشاركان بتمويل المشروع ، وتديره منظمة “العاد” الاستيطانية.
يقول الأب سهيل قاشا “إن القصص التى كتبها اليهود استناداً إلى الرواية المتناقلة ليست بتاريخ إنما فيها نفحة تاريخية وطيلة عشرين قرناً الماضية تمكن اليهود من تكريس الكثير من المفاهيم المخطوءة القائمة على التحريف والانتساب المزور للحوادث والشخصيات التاريخية، من أجل أن يجعلوا لهم امتداداً تاريخياً مرتبطاً بحضارات العالم القديم وعلى الأخص الحضارتين العراقية والمصرية العريقتين وتحس بكل تأكيد أن أحبار اليهود قد اقتبسوا من تورايخ الأقطار المجاورة لهم فهودوا كل المعلومات والحكايات التى رأوا فيها فائدة بعد أن زوروها” (1).
وهذا التاريخ المقدس يتبع نسقاً دينياً محدداً، يختار من الحدث ما يخدم الهدف، ويلجأ إلى الصور المجازية والرموز والمبالغة ليوصل الحكمة المستهدفة إلى الملتقى … وكثيراً من القصص التى وردت فى العهد القديم والتى تدعى لنفسها صفة التاريخية لا يمكن إثباتها بالعودة إلى التاريخ الدنيوى . كما أن بعض المدونات الآشورية والبابلية والمصرية تعطينا صورة مختلفة تماماً (2). فضلاً عن نهب محتوياتها التاريخية والسطو على منجزاتها الإبداعية والثقافية والدينية وبشكل انتقائى لتدعى انتمائها إلى رسالة اختصها الإله بها فى موقع مقدس على الرغم من أن هذه الشخصية لم ترتبط فى وجودها بإطار جغرافى محدد ، ومن هنا فإن الجغرافيا لم تكن جزءاً من هويتها ولم تكن سمة من سمات تراثها الذى تميز بتعدد مراكزه الجغرافية (3).
ومن الثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية المنتشرة فى العالم كانت تتسم بعدم التجانس وعدم الترابط وبأن أعضاءها كانوا يوجدون فى مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجية وأبنية حضارية اختلفت باختلاف الزمان والمكان (4) وكتب دانيال روس فى كتابه من إبراهيم وحتى المسيح “أن تاريخ إسرائيل فى تلك الحقبة – يقصد فترة ما بعد يشوع بن نون – ينقسم إلى مجموعة تواريخ يساوى عددها عدد قبائل إسرائيل” (5) كما يتضح تفتت الهوية اليهودية فى ظهور المفهوم الدينى القائل بأن شريعة الدولة هى الشريعة التى يجب أن يتبعها اليهودى فى حياته العامة، أى أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصوراً على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم ولا يضم حياة اليهود العامة والقومية.
وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) ديناً تحول الجانب القومى فيها إلى مجرد تطلعات دينية وانتماء إثنى يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها، وهذا هو المبدأ الذى لا يزال سائداً بين أعضاء الجماعات اليهودية رغم كل الإدعاءات، ومن كل هذا التفتت والتشتت هود الكهنة تاريخ وأساليب حياتها ، ونسبوا كل ذلك إليهم ، حتى ثيابهم – ثياب الكهنة – يظهر التأثير المصرى بوضوح فى الوصف التوراتى لثياب الكهنة التى تعتبر صورة طبق الأصل تقريباً من ثياب كهنة هليوبوليس والفرق الوحيد بين الصورتين يكمن فى أن الكهنة الإسرائيليين كانوا ملتحين بينما كهنة مصر حليقى الذقون والرؤوس وهذا هو الشئ الوحيد الذى لم يتجرأ موسى على طلبه من الإسرائيليين فتركه وأقلع عنه لأن اللحية كانت صفة سامية قديمة جداً، وتابوت الشهادة مسروق أيضاً عن المصريين فقد كان الكهنة المصريون فى هليوبوليس وطيبة يحملون خلال ممارستهم طقوسهم أسفاطاً صغيرة فيها أدوات ممارسة طقوسهم، والممتع هنا ـ على رأى زينون كوسيدوفسكى ـ أن تلك الأسفاط كانتا تظلل بجناحيها تمثالين منحوتين لعبقريين أو لاثنين من حماتهم، وهكذا نجد أنه حتى الكروبينات الإسرائيلية لها منشأ مصرى.
ويمكن أن تجد فى التوراة أمثلة أخرى من التأثير المصرى، لنتذكر المشهد الذى غطى فيه موسى وجهه بحجاب وظهر على رأسه قرن، علامة على قدسيته. لقد كان الكهنة المصريون يغطون وجوههم بخمار فى لحظة معينة من ممارسة طقوسهم الدينية فى المعبد أو عند قيامهم بالتنبؤ، أما القرن فهو بقايا طقس العجل أبيس المصرى الذى ترك فى نفوس الإسرائيليين آثاراً عميقة كما يدل مشهد العجل الذهبى التوراتى- فالقرن بالنسبة لهم بقى للقدسية (6) وقد أخذت المزامير كثيراً من أفكارها التى نسبتها إلى إله إسرائيل من القصائد المصرية فى مدح الإله آمون رع والموازنة بينهما لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة البحتة فمن ذلك أن القصيدة المصرية تخاطب آمون رع وكأنه “وحيد السماء الأعظم وأقدم من فى الأرض وسيد كل المخلوقات” كما يقال له أن الوحيد بين الآلهة وأكبر من كل الآلهة ” و ” إله الحق ” و ” أب الآلهة ” و ” صانع الرجال وخالق الحيوانات ” وهو يوصف كثيراً بأنه “خالق كل شئ” و”الذى يصعد مبتهجاً عبر السموات ” كما يدعى كذلك بأنه ” الواحد العادل” (7) وكان العالم الأمريكى جيمس هنرى برستيد أول من أشار إلى المطابقة بين نشيد إخناتون والمزمور (4/1) ثم قام بعمل مقارنة بين النصيين فخرج من بحثه ـ أو أبحاثه ـ بأن ذلك لا يمكن أن يكون بسبب توارد الخواطر بحال من الأحوال ، وإنما المرجح أن العبرانيين كانوا على علم بأنشودة اخناتون العظيمة التى وضعها الإله.. وأنه بفحص بعض الفقرات المشابهة لها من المزمور(4ـ 1) يظهر لنا مدى الشبه بين الصورتين، لا من حيث مضمون أنشودة أخناتون فحسب بل إننا كذلك نجده فى تتابع الأفكار وترتيبها الظاهرى، فإن ذلك بقى فى الرواية الأسيوية العبرية كما فى أنشودة أخناتون ولا يمكن بحال أن تكون تلك المشابهات من قبيل المصادفة بل إنها بالعكس دليل على وجود جزء عظيم من الأنشودة المصرية الدينية القديمة منشوراً بشكل معدل فى المزامير العبرانية (8) وعدا ذلك فإنه من المبرهن عليه أن أقدم القوانين الإسرائيلية المذكورة فى كتاب العهد ، مسروقة من تشريعات شعوب قديمة أخرى ومصاغة على النمط الإسرائيلى، وقد كشف العالم الألمانى آ.آلت فى كتابه (مصادر القانون الإسرائيلى) النقاب عن علاقة القوانين الإسرائيلية بتشريع حمورابى وكذلك بقوانين وتشريعات الحيثيين والآشوريين والمصريين والكنعانيين وحتى الوصايا العشر لا تعتبر نتاجاً إسرائيلياً نقياً، فقد قارن المؤرخ الإيطالى جوزيبى ريتشيونى مؤلف كتاب ” تاريخ إسرائيل ” بدقة متناهية مجموعة من النصوص القديمة، فاكتشف أن للوصايا العشر شبيهات بل قرائن فى كتاب الأموات المصرى وفى النص البابلى شوربو (9).
ويلاحظ أن التلمود الذى وضع فى بابل تناول الكثير من القضايا المتعلقة بالأراضى وإنشاء الجداول وصيانة السدود ومعالجة القضايا المتعلقة بشئون الزراعة المرتكزة على الرى وأكثرها مقتبس من أنظمة الحياة البابلية بعد أن أخذ اليهود يمارسون الزراعة على الرى فى بابل بعد السبى (10) .
المراجع:
1 ) الأب سهيل قاشا، أثر الكتابات البابلية فى المدونات التوراتية ، دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، الطبعة الأولى 1998، ص 8
2 ) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية جـ 4 ص17
3 ) الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية، د. رشاد الشامى، سلسلة عالم المعرفة 102، الكويت 1986، ص 9
4 ) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية جـ 4 ص14
5 ) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص198
6 ) نفسه ص143
7 ) دراسات فى تاريخ الشرق 2 أسرائيل جـ1 ص153
8 ) نفسه ص 155
9 ) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص 137
10) أثر الكتابات البابلية فى المدونات التوراتية ص 137.
موضوعات تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة