حمل خبر وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض نهاية العام الماضي بشرَى سارة لحكام القاهرة، إذ أمّلت الحكومة المصرية كثيرًا في علاقة وثيقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، تقوم على المنفعة المتبادلة، ويُسدي فيها ترامب
للقاهرة الكثير من الخدمات، بما فيها إمكانية زيادة المعونة العسكرية -تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار سنويًا- والعودة إلى الأسلوب الذي يفضله المصريون في تمويل مشتريات السلاح، والمعروف بـ«التدفق النقدي».
في هذا السياق، يطرح الباحث محمد المنشاوي، محلل شؤون الشرق الأوسط ومدير مكتب التليفزيون العربي في واشنطن، قراءته لتطورات مسألة قطع الولايات المتحدة جزءًا من مساعداتها العسكرية والاقتصادية عن مصر، محللًا أسباب ذلك القرار وتوابعه عبر مقالته بموقع «ذا هيل» الأمريكي.
«صدمة» الحكومة المصرية من قرار ترامب
يؤكد المنشاوي لم يكن من المستغرب أن يكون لقرار إدارة ترامب باقتطاع أكثر من 95 مليون دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر، وتعطيل 195 مليونًا آخرين من المساعدات العسكرية تأثير الصدمة في أوساط الحكومة المصرية. نبعت تلك القرارات جزئيًا من قلق أمريكي حقيقي وتقليدي إزاء سجل المصريين في مجال حقوق الإنسان، ومن جهة أخرى بسبب تزايد الامتعاض الأمريكي من التعاون العسكري القائم بين مصر وكوريا الشمالية.
تشير بعض التقارير مؤخرًا إلى أن التعاون العسكري بين مصر وكوريا الشمالية قد حسم موقف إدارة ترامب في تبني تدابير عقابية ضد القاهرة، بل والتهديد بالمزيد، وبحسب مصدر دبلوماسي مصري فإن التعاملات بين القاهرة وبيونج يانج قد زادت من قلق الولايات المتحدة التي طلبت سرًا من القاهرة أن تقطع روابطها العسكرية مع كوريا الشمالية -بحسب المنشاوي- وهي العلاقات التي تعود جذورها إلى ستينيات القرن الماضي.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية «هيزر نويرت»، في بيانها يوم 24 أغسطس الماضي فيما يتعلق بجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية ومصر، فنحن نواصل العمل مع حلفائنا وشركائنا ومن بينهم مصر»، جاء ذلك في بيان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية «هيزر نويرت»، صدر في 24 أغسطس (آب) الماضي.
الحملات القمعية المتزايدة على المعارضين الإسلاميين وغير الإسلاميين قد بلغت -بالنسبة لبعض أعضاء الكونجرس- حدًا لا يمكن القبول به.
وأضافت نويرت في بيانها: «لقد أجرينا محادثات مع مصر والعديد من الدول الأخرى حول العالم بخصوص جهود عزل كوريا الشمالية، ونحن نفعل ذلك لأننا ندرك أن الدول التي تستمر في القيام بأعمال تجارية مع كوريا الشمالية تزودها بالمال اللازم للاستمرار في أنشطتها النووية والبالستية غير المشروعة، وهذا يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة لنا وللمجتمع الدولي ككل».
لفترة طويلة، كانت واشنطن تعرب عن استيائها من سجل القاهرة المزعج في مجال الحريات المدنية كما يقول المنشاوي، كما أعربت مؤخرًا عن خيبة أملها جراء إصدار قانون جديد ينظم عمل المنظمات غير الحكومية في مصر، لكن الحملات القمعية المتزايدة على المعارضين الإسلاميين وغير الإسلاميين قد بلغت -بالنسبة لبعض أعضاء الكونجرس- حدًا لا يمكن القبول به.
على مستوى القانون والممارسة العملية، فرضت الحكومة المصرية قيودًا مشددة على حرية التعبير والتجمع السلمي، وقد أقنع تصديق المصريين مؤخرًا على التشريعات القاسية بخصوص المنظمات غير الحكومية واشنطن بأن النظام العسكري في مصر ذهب بعيدًا جدًا في حملاته التي طالت أعضاء المعارضة بأطيافهم المختلفة.
«حكمة» مبارك و«تهور» السيسي
يرى المنشاوي أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك قد نجح في نسج علاقته الخاصة مع واشنطن، وبرغم تقلب العلاقات الثنائية بين البلدين في بعض الأحيان بين مد وجزر، فإن «معادلة مبارك» قد نجحت إلى حد كبير في منع تضرر العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.
في الحقيقة، لم تكن «معادلة مبارك» هذه نابعة من عبقريته بقدر ما عكست امتيازات واشنطن، وللأسف لم تبد الإدارات الأمريكية المتعاقبة اهتمامًا فعليًا بالمسألة الديمقراطية في مصر، أو قضية احترام الحكومة المصرية لحقوق الإنسان والحريات السياسية. كان مبارك يعلم خطوط واشنطن الحمراء التي يحرص جيدًا على ألا يتجاوزها يومًا، بعكس الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي بدا أنه لا يبالي بالمحظور الأمريكي فيما يتعلق بكوريا الشمالية.
مائتا جندي فقط هم من سيشاركون في تدريبات «مناورات النجم الساطع» هذا العام، وهي المناورات التي كانت حتى وقت قريب تعد الأضخم في المنطقة وتساهم فيها الولايات المتحدة بآلاف الجنود.
بعد اجتماعاتهم المتعاقبة في كل من نيويورك وواشنطن والرياض، أكد ترامب والسيسي بشكل لا لبس فيه على العلاقة الخاصة التي تجمع بين بلديهما، الأمر الذي جعل نظام السيسي يتبنى توقعات غير واقعية فيما يمكن أن يعنيه وجود ترامب على رأس الإدارة الأمريكية بالنسبة لمصر.
ومؤخرًا، أعلن الجانبين استئناف «مناورات النجم الساطع» أكتوبر (تشرين) القادم، وهي المرة الأولى التي تشترك فيها الولايات المتحدة في تدريبات عسكرية مشتركة مع مصر منذ الإطاحة بمبارك عام 2011، وبرغم ما يمثله ذلك من مؤشر على تطور العلاقة بين البلدين، فإن مائتي جندي فقط هم من سيشاركون في تدريبات هذا العام، وهي المناورات التي كانت حتى وقت قريب تعد الأضخم في المنطقة وتساهم فيها الولايات المتحدة بآلاف الجنود.
لا خيار أمام السيسي
بحسب رؤية المنشاوي، انعكس الخلاف الأخير بين واشنطن وبيونج يانج بسبب برنامج الأخيرة للقذائف البالستية بالسلب على العلاقات الأمريكية المصرية، ظلت مدينة بور سعيد المصرية على قناة السويس نقطة عبور لصادرات الأسلحة الكورية إلى أفريقيا.
وفيما صوتت القاهرة بالإيجاب على«القرار 2371» الذي حظي بإجماع أعضاء مجلس الأمن، والذي سمح بمزيد من العقوبات ضد كوريا الشمالية، فإن نظام السيسي رفض أن يتم فرض تلك العقوبات بالقوة، باختصار فإن مصر أرادت أن تلعب على الحبلين: تحافظ على علاقتها الاستراتيجية بأمريكا من ناحية، وتطور علاقاتها العسكرية بكوريا الشمالية من ناحية أخرى.
جاء قرار ترامب غير المتوقع بقطع المساعدات عن مصر ليضع السيسي أمام خيار مرير، فكيف يقطع علاقات بلاده مع كوريا الشمالية بعد أن بلغت هذا المبلغ؟ يدرك فريق ترامب محدودية الدور المصري في كثير من قضايا المنطقة – برغم الإشادة بدعوات السيسي للتجديد الديني وبإجراءات الإصلاح الاقتصادي التي اقترحها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي -، يدرك الأمريكيون أن الدور المصري آخذ في الأفول، في الوقت الذي تتعاظم فيه أدوار قوى إقليمية أخرى كالسعودية وإيران وتركيا.
بالمحصلة، وبالنظر إلى التحديات الاقتصادية والسياسية في مصر، ومعضلة مكافحة الإرهاب في سيناء، لا يرى المنشاوي أن نظام السيسي يملك قدرة كبيرة على المناورة في مواجهة الضغوط الأمريكية بخصوص كوريا الشمالية، ولذلك فإن السيسي سيجد نفسه في النهاية مضطرًا إلى الانصياع لرغبات الإدارة الأمريكية.
ساسة بوست