تمتد أحراج السنديان في السويداء على مساحة مئات الدونمات في قرى الكفر والسهوة وقنوات وعلى أطراف المدينة الشرقية فيما يعرف بمحمية الضمنة، وحتى بداية الحرب السورية كانت مقصدا للاستجمام والرحلات ومتنفساً لأهل المدينة بما تحتويه من مناظر طبيعية وهواء نظيف.
السنديان أشجار دائمة الخضرة وبطيئة النمو ومعمرة قد تصل إلى مئات السنين تتميز بخشب قاسي ومتين ويعتبر من أفضل أنواع الخشب، كما أنّ هكتاراً واحداً من السنديان يمتص ما يقارب 15 طن من غاز ثاني اكسيد الكربون في السنة ويطرح ما يعادلها من الاكسجين، ويعدل من سرعة الرياح بمقدار 40 بالمئة وتستجلب الرطوبة من مسافة 100 كم تقريباً، كما أنّ ثمارها كانت تستخدم فيما مضى في الغذاء في سنوات الجفاف والقحط.
خلال فترة حكم العثمانيين والفرنسيين تعرضت الأحراج إلى الكثير من الأذى والقطع الجائر لاستخدامها في صناعة الفحم والمفروشات، ولكنها صمدت رغم ذلك فسكان المنطقة حافظوا عليها بشكل جيد حيث لم يعتمدوا عليها في التدفئة. بدلاً من الاحتطاب اعتمد السكان المحليون على روث الحيوانات المتواجد بكثرة في قراهم لصناعة ما يعرف بالجلة حيث يخلط مع بقايا القش والتبن ويجفف على شكل كرات يسهل تخزينها واستخدامها في الشتاء. واقتصر استخدام الأخشاب على صناعة بعض الأثاث البسيط وأدوات الزراعة ومهابيج القهوة التي اشتهرت بها المنطقة، وقد روى الرحالة والمستشرق السويسري جون لويس بركهارت (1784 – 1817) مشاهداته في حوران التي زارها في أوائل القرن التاسع عشر: “وقد رأيت الأهالي يطحنون القهوة في (نجر) مصنوع من خشب السنديان ويبلغ ثمنه من عشرين الى خمسة وعشرين قرشا”[1]
أما حديثًا فلم يكن هناك حاجة لاستخدام الخشب في التدفئة بسبب وفرة المحروقات بأسعار رخيصة وسهولة الحصول عليها مما ساهم في بقاء الاحراج ونموها.
خلال السنوات العشر التي سبقت الانتفاضة فالحرب السورية، أدت سياسات التحرير الاقتصادية ورفع الدعم الحكومي وانخفاض عائدات النفط إلى تقلبات في أسعار الوقود التي كانت تدعمها الدولة. فبين عامي 2008 و2012 تغيرت أسعار المازوت أربع مرّات، وقبل شهر أيار من العام 2008 كان سعر اللتر الواحد 7 ليرات سورية[2] (كان سعر صرف الدولار يعادل 46.5 ليرة سورية[3]) قبل أن يقفز فجأة إلى 25 ليرة سورية. خلال السنوات التي تلت، تمت محاولات لتخفيض سعر اللتر ليصل مع بداية 2011 إلى 15 ليرة سورية، ولكن مع بداية الحرب السورية تغير كل شيء.
بدأت الأزمة بارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير وعدم توافرها بالكميات اللازمة للتدفئة. ففي 2012-2013 ومع اتساع العمليات العسكرية والمواجهات بين أطراف النزاع السوري برزت أزمة المحروقات بشكل كبير، فمن المعلوم أن الآليات العسكرية تحتاج إلى كميات كبيرة من الوقود لتشغيلها، هذا عدا عن خروج كثير من مناطق الآبار والمنشآت النفطية عن سيطرة الدولة وصعوبة التنقل والحركة مع ظهور أمراء الحرب بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية الخارجية الأمر الذي زاد الحالة سوءاً وفاقم من حدّة الأزمة.
تجلّت أول انعكاسات أزمة المحروقات بانقطاع التيار الكهربائي وزيادة ساعات التقنين حيث بلغت في بعض المناطق 20 ساعة في اليوم، كما برزت أزمة أخرى في توفر أسطوانات الغاز المنزلي وصعوبة الحصول عليه، هذا عدا عن الارتفاع الجنوني لأسعار المحروقات حيث وصلت أسعار المازوت في أعوام 2012-2013-2014 إلى 200 ليرة للتر الواحد في حال توافره أولاً وفي حال لم يتلاعب الموزعون وأصحاب محطات الوقود بالأسعار، وارتفعت مجدداّ بين عامي 2016-2017 لتصل حتى 300 ليرة سورية وأحيانا إلى أكثر من ذلك وخصوصا في أوقات الشتاء. وبحسبة سريعة تحتاج الأسرة في أيام الشتاء ما بين 5-10 لتر من المازوت لمدفأة واحدة في اليوم، أي ما يعادل 800 لتر خلال فصل الشتاء (200-300 ألف ليرة كلفتها التقديرية)، فيما لا تتجاوز رواتب الموظفين 40 ألف ليرة شهرياً. كانت إجراءات الحكومة بهذا الصدد محدودة جداً حيث تم توزيع مازوت التدفئة لكل أسرة بحدود 100-150 لتر خلال موسم شتاء كامل، ما يغطي حاجة الأسرة لعشرين يومًا بأحسن الأحوال.
دفعت هذه الظروف مجتمعة، بدءاً من عدم توافر المازوت إلى غياب وسائل التدفئة البديلة كالغاز والكهرباء، الناس لإيجاد حلول لمواجهة البرد القارس في السويداء. بدأ الكثير من السكان المحليين والنازحين إلى المنطقة بجمع الأغصان من البساتين بعد عمليات التقليم لاستخدامها في التدفئة، ولكنها لم تكن تفي بالغرض، وسرعان ما بدأت عمليات التحطيب والتعدي على الأحراج بقطع الأغصان التي تنمو على جذوع الأشجار والأفرع غير الرئيسية في الشجرة بحجة أن هذه الممارسات لا تؤذي الأشجار بل وتعطيها منظرا جميلا وموحداً. وبحجة “بدي دفّي اولادي” تحوّلت الأشجار إلى ما يشبه الأشباح بساقٍ طويلةٍ جرداءَ وكُبة أغصانٍ وورقٍ في رأسها.
بدأت الأصوات تعلو هنا وهناك للحثّ على ضرورة حماية الأشجار التي تشكلّ جزءاً من هوية المنطقة ودعت إلى تنظيم عمليات الاحتطاب. فكانت إحدى الاقتراحات تقوم على تولي مديرية الزراعة الإشراف على عمليات القطع من خلال لجانٍ تابعة لها ومختصة في ذلك على أن يتم بيع الحطب للأهالي ضمن ضوابط بمعدل نصف طن للأسرة وبسعر 6000 ليرة. لكن هذه التجربة لم تستمر طويلا وكانت نتائجها كارثية فقد تورطت تلك اللجان بعمليات قطعٍ جائرة وبفسادٍ مستشري لتقوم بدورها ببيع الأخشاب لمن يدفع أكثر. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فحتى النواطير الذين تم تعيينهم لحماية الأحراج زادوا الطين بلة، فمنهم من كان يستغل موقعه لقطع الأشجار وبيعها دون أن يحاسبه أحد، ومنهم من كان يغض النظر عن معارفه وأصدقائه مقابل رشاوي مالية.
ونتيجة لكل ذلك من غياب الرقابة والمحاسبة والحماية، وازدياد الطلب بشكل كبير على الأخشاب، أبيد أكثر من نصف الأحراج وتحولت عمليات القص والتحطيب إلى سوق مزدهرة والى فعل يومي وجماعي وفي وضح النهار. وفي ظلّ غياب أي بدائل وضمن اقتصاد الحرب المتنامي وجد العديد من العاطلين عن العمل والفقراء في بيع الحطب مصدر رزقٍ سهلٍ ومربح. إلى جانب العمل الفردي والعشوائي، نشأت عصابات مسلحة متخصصة في ذلك، حيث تقوم بقطع بقع كاملة (صورة 1) وعلى مساحات كبيرة بواسطة مناشير آلية، ووصل بهم الحال إلى تهديد من يحاول منعهم بقوة السلاح. كما أصبحت المناشير ومدافئ الحطب من أهم البضائع التي توفرّها محلات بيع المعدّات الزراعية والصناعية.
صورة (1) تظهر الاحتطاب الجائر خلال سنوات الحرب (المصدر: ستوديو حيان للتصوير، سهوة بلاطة، السويداء)
ظهرت محاولات عديدة لوقف هذه المجزرة وإنقاذ ما تبقى من الأشجار، ولكنها بقيت محاولات فردية ومحدودة وغير منظمة أيضا نذكر منها: توقيف بعض الأشخاص وتغريمهم، إنشاء دوريات ولجان محلية لحماية الأحراج وإغلاق الطرق المؤدية إليها، حملات توعية على مواقع التواصل الاجتماعي وتوزيع مناشير ولافتات تُجرّم قطع الاشجار وتحضّ الناس على عدم شراء الأخشاب، الحرم الديني والاجتماعي من رجال الدين، والمحاولات الفردية كحالة هاني (اسم مستعار) حيث يقول:
“أمضيت ثلاثة سنوات وأنا أذهب صباح كل يوم من أيام الشتاء إلى الأحراج في قريتي محاولاً منع أي تعدّي عليها بحجة أن كرومي تقع بالقرب منها، واستطعت أن أحميها بشكل جيد على مساحة تقدر ب 200 دونم. ولكن في العام الماضي أصبحت تنشط أعمال التحطيب في فصل الصيف حيث معظم الناس مشغولة في أعمالها، أو تتم في الليل حيث لا يوجد إمكانية لحراسة الأحراج ليلاً، اليوم فقدت 70 بالمئة من الأشجار التي كانت تحيط بكرومي بالإضافة أنهم انتقموا مني بشكل شخصي، حيث قاموا بقطع شجرة سنديان معمرة في مدخل الكرم وكذلك شجرة زعرور بري، كما أنهم قطعوا بعض أشجار الزيتون والعنب كذلك.” (صورة 2).
صورة (2) تظهر ما تبقى من غابات السنديان والبلوط والزعرور (المصدر: أرشيف الكاتب الخاص. 15 شباط 2017)
ويكمل هاني متحسراً “أتعلم، لا ذاكرة لهذا المكان بعد اليوم. أصبحتُ أكره الشتاء كثيرا فمن أجل دفء سنة سنبرد طوال حياتنا. أنا شاهدٌ على كل ما يجري، أكثر من نصف الغابات أبيدت، حتى أشجار الطرقات والحدائق لم تسلم أيضاً…لم أعد أستطيع تحمل ما يجري ولا أملك أي وسيلة لحمايتها”
هناك…في جبال السنديان البعيدة في البيرينيه أسطورةٌ تقول:
“(من يقطع شجرة مقدسة تحلٌ عليه اللعنة”
أيةُ لعنةٍ هذه …هي قصة بلادٍ بأكملها وقد أصابتها اللعنة
جدلية