عداء اليهود وليس معاداة السامية
- استخدم المشروع الصهيوني القوة ودعم الدول الكبرى، ومغالطات دينية وتاريخية منها “معاداة السامية”.
- لماذا لا يذكر الكتاب الأميركيون عنف إسرائيل وعنصريتها عند حديثهم عن غضب العرب (الضحايا) من الإسرائيليين (الجناة)؟!
- لقّن التلمود أتباعه أسلوب “اتخاذ من الضعف قوة” وأبقت الحركة الصهيونية الظاهرة القديمة “العداء لليهودية” باسم “العداء للسامية”، وبمضامين وأبعاد جديدة.
بقلم: عبد الفتاح ماضي
أدلت إلهان عمر ورشيدة طالب -وهما عضوتان جديدتان في مجلس النواب الأميركي من أصول صومالية وفلسطينية- بتصريحات تدين سياسات “إسرائيل” والدعم المقدم لها من السياسيين الأميركيين.
وإثر ذلك؛ فتحت لجنةُ الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC) -وهي اللوبي الأقوى في واشنطن- النارَ على النائبتين المسلمتين، واعتبرت أن تعليقات إلهان (التي أشارت فيها إلى أن أيباك تدفع الدولارات للسياسيين مقابل دعم إسرائيل) إهانةً للسياسيين الأميركيين، وتم اتهامها بـ”معاداة للسامية”.
اقرأ/ي أيضا: خفايا الحملة الصليببية لترامب
هناك قضايا مهمة ذات صلة؛ مثل محدودية خبرة النائبتين في التعامل مع هذه المسألة الشائكة، وأهمية اكتسابهما الكثير من المداخل والطرق التي يمكن عبرها طرح أبعاد هذه المسألة بشكل قانوني أولاً، وبشكل مقبول في السياق السياسي هناك ثانيا، وذلك حتى لا ترتد السهام عليهما.
كما أن هناك مسألة استغلال الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحزبه الجمهوري تصريحات النائبتين لتعميق الانقسام داخل الحزب الديمقراطي ذاته، عبر إظهار الموضوع وكأنه انقسام بين دعاة الحرية وهم “داعمو إسرائيل” من جهة، واليسار وهم “المعادون للسامية” من جهة أخرى.
اقرأ/ي أيضا: محاكم التفتيش الحديثة
بعيدا عن هاتين المسألتين؛ يتناول هذا المقال موضوع “معاداة السامية” وكيف تحول إلى سيف مُصْلَتٍ للترويج أولا لمشروع استعماري إحلالي هو المشروع الصهيوني، ثم لتصفية المعارضين لهذا المشروع وللدولة الصهيونية التي أنتجها المشروع بالقوة وبالدعم الغربي.
مغالطات داعمي إسرائيل
إن دعم منظمات اللوبي الإسرائيلي المتعددة لإسرائيل عن طريق التأثير في السياسيين الأميركيين أمر معروف، وكُتبت فيه مئات المقالات والكتب، لكنه يظل في النهاية منتشرا ضمن دوائر سياسية وبحثية ضيقة.
ولا يصل حجم الأموال التي تدفعها هذه المنظمات للسياسيين إلى الناخبين الأميركيين، وثمة سيطرة شبه كاملة من أنصار “إسرائيل” على كثير من الصحف الأميركية الكبرى.
اقرأ/ي أيضا: «المؤرخ» ضاحي خلفان يندد باحتلال المسلمين للأندلس!
وحسب تقرير كتبه جيرمي شارب وصدر عن خدمة الأبحاث بالكونغرس؛ فإن مجمل ما قُدّم من مساعدات رسمية أميركية “لإسرائيل” عام 2018 هو 3.8 مليارات دولار، أي ما يعادل 10.5 ملايين دولار يوميا. ناهيك عن المساعدات غير الرسمية التي تُقدّر بأضعاف أرقام المساعدات الرسمية.
ولهذا؛ لا شك في أن منظمات اللوبي الإسرائيلية لا تريد أن تظهر أصوات جديدة بالكونغرس تنشر الحقائق عن علاقات أميركا بالدولة الصهيونية، ولا عن حقيقة الدولة الصهيونية ذاتها التي توصف بأنها دولة فصل عنصري (أبارتهايد). وإسكات صوت رشيدة وإلهان- أو حصرهما ضمن الحدود المسموح بها- هو هدف حقيقي لتلك المنظمات.
اقرأ/ي أيضا: أسئلة العلاقات الإماراتية الإسرائيلية
ومؤخرا كتب فريد زكريا -وهو كاتب أميركي ليس محسوبا على غلاة الكتاب الموالين “لإسرائيل”- في واشنطن بوست (14/2/2019) يدين هو الآخر تصريحات النائبتين.
كتب زكريا قائلا إن “اللاسامية” انتشرت “كالسرطان” عند العرب والمسلمين منذ نهاية القرن الـ19، وتصاعدت أكثر بعد إقامة “إسرائيل” عام 1948. وأشار لاستطلاع رأي أجرته “رابطة مكافحة التشهير”، وهي منظمة يهودية تعمل بأميركا وترصد ما تسميه “اللاسامية”، جاء فيه أن حجم “العداء للسامية” بين المسلمين يمثل ضعفيْ حجمه لدى المسيحيين.
يتجاهل مقال زكريا -وغيره من المقالات التي تنشرها الصحف الأميركية- الكثيرَ من الحقائق على الأرض، وكذا يتجاهل حقيقة أن “اللاسامية” هذه مغالطة لها تاريخ معروف.
إذا أراد زكريا وغيره من الكتّاب الأميركيين أن يكونوا على قدر من التوازن؛ فعليهم أن يعودوا – بجانب استطلاع رأي رابطة مكافحة التشهير- إلى استطلاعات رأي أخرى تجريها منظمات ومراكز بحوث أجنبية وعربية، كخدمات أبحاث مؤسسة زغبي بالولايات المتحدة، والمؤشر العربي الذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة وغيرهما.
اقرأ/ي أيضا: الإمارات والسردية الصهيونية
تُظهر عشرات الاستطلاعات إدانةَ الشعوب العربية -وغيرِ العربية- سياسةَ أميركا الداعمة لإسرائيل، وتحمّلها مسؤولية استمرار سياسات دولة الاحتلال. وهناك أيضا استطلاعات رأي ترى أن عداء العرب إنما هو للسياسات الإسرائيلية التي تمارس القمع والعنصرية تجاه الشعب الفلسطيني منذ 1948، وليس لليهود كأتباع ديانة سماوية.
وحسب المؤشر العربي لعام 2018؛ فإن العرب في 11 دولة عربية يرفضون الاعتراف بدولة إسرائيل لأسباب سياسية بنسبة تفوق 85%، بينما تبلغ نسبة الذين يرفضون الاعتراف لأسباب دينية 6.%. لماذا لا يذكر زكريا وغيره من الكتاب الأميركيين السياسة الإسرائيلية العنيفة والعنصرية، عند حديثهم عن غضب العرب (وهم الضحايا) من الإسرائيليين (وهم الجناة)؟
اقرأ/ي أيضا: حقيقة الكيان الصهيونى وفكره العنصرى
وإذا لم تُعجب هؤلاء الكتابَ استطلاعاتُ الرأي تلك؛ فعليهم العودة إلى قرارات الأمم المتحدة التي أدانت ممارسات إسرائيل العدوانية منذ 1948، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 لعام 1975 الذي اعتبر أن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، والذي ظل قائما حتى ألغته الأمم المتحدة بضغط من الولايات المتحدة عام 1991 بحجة أن هناك نظاما عالميا جديدا.
وعليهم العودة أيضا إلى تقرير اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا) الذي صدر 2017، وقال إنه تأكد -استنادا إلى تحقيق علمي وأدلة لا شك فيها- من أن إسرائيل “مذنبة بجريمة الأبارتيد” التي كانت في جنوب أفريقيا.
وهناك أيضا كتابات الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وخاصة كتاب “فلسطين: سلام وليس أبارتيد” (صدر 2006) الذي وصف فيه ممارسات “إسرائيل” العنصرية بأنها أسوأ من سياسة جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري. وهناك العشرات من الكتب التي صدرت في ذات الاتجاه من كتّاب أميركيين وبعض الإسرائيليين أيضا.
اقرأ/ي أيضا: في وداع الردع.. لماذا يتجه العالم للحرب بدلا من تفاديها؟
ومن جهة أخرى؛ يعود زكريا إلى التاريخ بشكل انتقائي كعادة الكثير من الغربيين. نعم هو أشار إلى أنه قبل القرن التاسع عشر كان الوضع معكوسا، إذ كان المسلمون واليهود يعيشون في سلام في المجتمعات الإسلامية، على عكس الحال في المجتمعات الأوروبية المسيحية.
لكن زكريا ربط بين ما أسماه صعود “اللاسامية” في القرن العشرين وتصرفات النظم العربية، العلمانية والدينية؛ حسب تعبيره. وأشار إلى ما اعتبره عمليات تحريض وبروباغندا لإسقاط شرعية دولة “إسرائيل”، دون أن يشير إلى المجازر والاعتداءات التي شنها الإسرائيليون على العرب.
ما هي “اللاسامية”؟
كان على زكريا أن يعود إلى الوراء قليلا؛ فأول من استخدم كلمة “العداء للسامية” (Anti-semitism) هو الكاتب الألماني ڤلهلم مار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بعد الحرب الفرنسية الروسية التي أعقبتها خسارة كبيرة لبعض رجال المال الألمان فعزوْا هذه الخسارة إلى اليهود.
اقرأ/ي أيضا: سؤال الهوية المتغيّر!
وإن أردنا الدقة؛ فإن الكلمة تعني تحديدا كراهية المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى للجماعات اليهودية التي كانت تعيش هناك، وما تبع ذلك من عمليات اضطهاد ومطاردة بتأثير من الكنيسة الكاثوليكية.
إنها ظاهرة “العداء لليهود” في زمان ومكان محددين، وليس العداء “للسامية”؛ لأن العرب ساميون كما هو معروف، ولأن غالبية يهود اليوم غير ساميين لأنهم ينحدرون من قبائل الخزر التي عاشت في منطقة بحر قزوينفي آسيا، ودخلت الديانة اليهودية في القرن العاشر الميلادي تقريبا.
ومن يهود الخزر ينحدر جُل ما يُعرف اليوم باليهود الأشكناز، ومن ثم لا علاقة لهؤلاء اليهود ببني إسرائيل القدماء (ومنهم ينحدر ما يُعرف باليهود السفارديم) الذين عاشوا فترات طويلة في المجتمعات العربية.
اقرأ/ي أيضا: صفقة القرن “دولة واحدة بنظامين” بدل حل الدولتين
ويمكن رد ظاهرة “العداء لليهودية” أيضا إلى ظاهرة قديمة هي التناقض الديني المسيحي اليهودي. ولهذا العداء العديد من الأسباب الدينية والاجتماعية والاقتصادية في واقع الجماعات اليهودية بأوروبا تحديدا. فدينياً؛ خضعت الجماعات اليهودية لكراهية
المسيحيين بسبب عقيدتهم الدينية، ولتحميل المسيحيين اليهودَ دمَ المسيح لقرون طويلة.
ومن الناحية الاجتماعية؛ اتسمت الجماعات اليهودية بالانعزالية والتقوقع، مما دفع المجتمعات الأوروبية إلى النظر إليهم بعين الشك والريبة. أما من الناحية الاقتصادية؛ فقد كان تسلط عائلات يهودية ثرية في عالم الاقتصاد -مع ظهور النظم الرأسمالية- سببًا إضافيًا من أسباب تفاقم كراهية الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية.
اقرأ/ي أيضا: جرائم إسرائيل بين إدانة أممية وحصانة أميركية
الجديد الذي قامت به الحركة الصهيونية في القرن الـ19 (القرن الذي اعتبر زكريا أنه شهد صعود كراهية المسلمين لليهود) هو توظيف هذه الظاهرة الدينية القديمة كأداة سياسية لخدمة الفكرة الصهيونية. والصهيونية تعني -باختصار شديد- حل مشكلة عداء المجتمعات المسيحية لليهود في أوروبا عبر: الاستيلاء على فلسطين بالقوة، وتفريغ أرضها من أهلها بالطرد أو القتل، وتهجير الجماعات اليهودية إلى فلسطين للاستيطان فيها.
ولتحقيق هذا المشروع الاستعماري الصهيوني الغربي؛ استخدمت الصهيونية القوة ودعم الدول الكبرى، كما استخدمت العديد من المقولات والمغالطات الدينية والتاريخية؛ ومن هذه المغالطات “معاداة السامية”.
اقرأ/ي أيضا: من لا يقاتل (إسرائيل) لا يحارب (الإرهاب)!
إن من أقوى الأساليب التي لقّنها التلمود لأتباعه هو “أسلوب اتخاذ من الضعف قوة”. لقد أبقت الحركة الصهيونية الظاهرة القديمة “العداء لليهودية”، ولكن بتسمية جديدة هي “العداء للسامية”، وبمضامين وأبعاد جديدة.
ادّعت الحركة الصهيونية أن “العداء لليهود” يتخذ أبعادًا ثلاثة؛ هي: البعد التاريخي، أي أن هذا العداء موجود منذ وُجد “اليهود” وحتى اليوم: السبي البابلي، فالشتات الروماني في العصر القديم، وحياة “الغيتو” واضطهاد العصور الوسطى، ثم أضيف لها الاضطهاد النازي في العصر الحديث.
اقرأ/ي أيضا: مزاعم التفرد الصهيونى الإجرامى المقدس
والبعد الجغرافي؛ فالعداء يشمل “اليهود” في كل أنحاء العالم وليس أوروبا المسيحية في العصور الوسطى فقط. والبعد الكيفي؛ أي أن ما وقع على “اليهود” لا يعادله أي اضطهاد وقع على سواهم في أي زمان أو مكان.
وهذه مغالطة مليئة بالأكاذيب؛ فأولاً، لا يوجد “شعب يهودي” واحد ينحدر من قومية واحدة، وإنما ما الموجود هو جماعات يهودية مختلفة الأصول واللغات والتاريخ.
وثانيا، هناك مجتمعات مسيحية لم تضطهد الجماعات اليهودية، فضلا عن التعايش المعروف بين اليهود والمسلمين في المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ. وثالثا، إن عدد ضحايا الاستعمارين البريطاني والفرنسي في أفريقيا وآسيا يفوق بمراحل كثيرة ما جرى لليهود في ظل النظام النازي مثلا، إذا كان الحديث يتعلق بالقرنين الأخيرين فقط.
اقرأ/ي أيضا: حقائق الهيمنة الاستعمارية
صراعنا من أجل نزع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني صراع متعدد الجوانب. وكشف المغالطات ونشر الحقائق التاريخية جانب واحد مهم من هذه الجوانب؛ وخاصة في ظل ضعف الحكومات العربية، وقمع الشعوب العربية وإدخالها في حروب وصراعات عدَمية.
* د. عبد الفتاح ماضي أستاذ علوم سياسية وباحث بمركز وودرو ويلسون بواشنطن.
المصدر : الجزيرة نت
عذراً التعليقات مغلقة