نشأت مشكلات وأزمات وصراعات مزمنة في إطار الإدارة الغربيّة الأوروبية ثم الأمريكية لشؤون العالم منذ ما يزيد على قرن.
سيكون 2023 وما يليه لحظة مفصلية في تطور النظام الدولي، ولن ينتصف هذا العقد إلا وقد تبدلت صورة العالم تماماً عما كانته منذ زمن مديدٍ.
أمريكا لم تعد تحتكر القوة والثروة عالميا كما كانت قبل ثلث قرن؛ بل زاحمتها على ذلك قوى أخرى صاعدة كالصين والهند (وروسيا عسكريا).
اللامبالاة الأمريكية ستولّد خيبة لدى نخب أوروبا الحاكمة والتابعة لسياسات واشنطن وترفع مشاعر الاستياء والنقد لدى الرأي العام في عموم أوروبا.
ستشهد الفترة القادمة مزيداً من النتائج الموجعة لأزمة أوكرانيا على الوضع الاجتماعي الاقتصادي بأوروبا، أكثر بكثير مما تعانيه روسيا بسبب العقوبات.
من أمّهات مشاكل هذا العقد وربما هذا القرن: المواجهة الروسية الغربية الشاملة؛ والنزاع الاقتصادي التكنولوجي الجيوستراتيجي الأمريكي الصيني.
ستحدد المواجهة الروسية الغربية والأمريكية الصينية مصير النظام الدولي وتوازناته سواء استفحلت نزاعاتهما وتفاقمت أو وجدت حلاً سياسياً وتسوية تفَاوَضية.
سنشهد قريبا إضرابات عمالية وطلابية وتظاهرات حاشدة بشوارع كبرى مدن أوروبا احتجاجاً على الغلاء وأوضاع معيشية كارثية بسبب سياسات معادية لروسيا.
* * *
بقلم: د. عبد الإله بلقزيز
كثيرة هي المشكلات والأزمات العالمية التي يتوقف على معالجتها أو استفحالها مصير العالم في المرحلة القادمة، والتي تغري – في الوقت عينِه – بإجراء مطالعة استشرافية لصورتها بما يساعد على تبيّن اتجاهات التطور في المستقبل المنظور.
ومع أن المألوف في المقاربات الاستشرافية، التي تجريها المعاهد الخاصة ووسائل الإعلام والصحف، أن يدور الاستشراف على مدى زمني قصير (عام واحد)، فإن صورة بعض أمّهات الأزمات العالمية قد لا يتبدد غموضها في بحر عامٍ واحد؛ إذ قد تأخذ من الزمن مدى أطول نسبياً نحو (عامين أو ثلاثة أعوام) حتى تنجلي؛ لذلك فالتوقعات في شأنها ضمن مدى العام الواحد تظل مؤقتة وجزئية.
لعل مشكلتيْن مندلعتين، اليوم، قد تَكونا من أمّهات مشاكل هذا العقد الجديد، وربما هذا القرن الجديد، هما: مشكلة المواجهة الروسية الغربية (الأطلسيّة) الشاملة، ومشكلة النزاع الاقتصادي والتكنولوجي والجيوستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وفي نطاق المشكلتين تنعقد مشكلات وصراعات أخرى لا حصر لها: من الصراع بين الشمال والجنوب، إلى الصراع العربي-الإسرائيلي، إلى مشكلات التبادل اللامتكافئ، وتدهور البيئة، والتوزيع غير العادل للسلطة والثروة في العالم، والتلاعب بالقانون الدولي وتكريس سياسة ازدواجية المعايير، وسوى هذه المشكلات والأزمات والصراعات التي نشأت في إطار الإدارة الغربيّة الأوروبية ثم الأمريكية لشؤون العالم منذ ما يزيد على قرن.
لا نستبعد، من جهتنا، أن تحدد المسألتان المومأ إليهما مصير النظام الدولي وتوازنات قواه، سواء استفحلت نزاعاتهما وتفاقمت أكثر، أو وجدت لنفسها حلاً سياسياً وتسوية متفَاوَضاً عليها.
وفي الحالين، لن تكون صورة العالم، بعد عامين من اليوم، ما كانته قبل عقدين؛ لأن أمريكا القوة الشريكة في صنع الأزمتين وتفجيرهما لن تَقوى على خوض الصراعين حتى النهاية لسبب معلوم هو أن ما لحقها من إنهاك اقتصادي ومالي وعسكري، منذ مطلع هذا القرن، ما عاد يسمح لها بالمزيد.
ناهيك بأن أمريكا لم تعد تحتكر القوة والثروة في العالم، مثلما كانت عليها حالُها قبل ثلث قرن؛ بل زاحمتها على ذلك قوى أخرى صاعدة مثل الصين والهند (وروسيا عسكريا).
وعليه، حتى في حال ما إذا وقعت معالجة سياسية لأزمة العلاقة بين روسيا ودول الأطلسي، ثم لأزمة النزاع الأمريكي الصيني على النفوذ في العالم، ستجد واشنطن نفسَها – ومعها عواصم الغرب – مدعوّة لتقديم تنازلات استراتيجية لروسيا والصين من باب الاضطرار لكونها عاجزة عن حسم المعركة معهما بالقوة.
سنشهد، في الفترة القادمة، مزيداً من النتائج الموجعة لأزمة أوكرانيا على الوضع الاجتماعي الاقتصادي في بلدان أوروبا، أكثر بكثير مما تعانيه روسيا بسبب العقوبات.
ولن نلبث طويلاً حتى نشاهد كرنفالاً شعبياً هائلاً من الإضرابات العمالية والطلابية ومن التظاهرات في شوارع كبرى مدن أوروبا احتجاجاً على الغلاء والأوضاع المعيشية الكارثية الناجمة من سياسات أوروبا المعادية لروسيا.
في الأثناء، سيزيد معدل اللامبالاة الأمريكية بأوضاع أوروبا ارتفاعاً، وستُتْرَك الأخيرة لمصيرها الصعب، وحيث وحدها تعيش نتائج الأزمة الأوكرانية على اقتصادها لا أمريكا.
وما من شك في أن اللامبالاة تلك إذْ ستولّد خيبة لدى النخب الأوروبية الحاكمة والتابعة لسياسات واشنطن، سترفع من مشاعر الاستياء والنقد لدى الرأي العام في عموم أوروبا. وهكذا تنتقل المعركة من الساحة الأوكرانية إلى ساحات أوروبية، ولكن هذه المرة من غير وجود روسي مباشر.
في موازاة ذلك، ستمضي الصين في اندفاعتها العلمية والتكنولوجية بإيقاعٍ مطّرد، بالتساوُق مع المضي في إضعاف نزعة الانفصال التايوانية وقواها المحليّة وضرب موارد دعمها الخارجية (الأمريكية خاصة).
ومثلما نجح النفوذ الصيني في إفريقيا في إضعاف النفوذ الأمريكي والبريطاني والفرنسي سيُحْرِز نجاحات مماثلة في آسيا: في غربها؛ حيث بدأت علائمه تظهر في اتفاقات الصين مع بلدان المنطقة كما في جنوب شرقها أيضاً.
وسيكون ذلك إضعافاً هائلاً لقوة أمريكا، لأن الإمبراطوريات الكبرى – كما يعلّمنا التاريخ – يدبّ إليها الوهن من الأطراف.
في الحالتين، سيكون عام 2023 – والذي يليه – لحظة مفصلية في تطور النظام الدولي، وقطعاً لن ينتصف هذا العقد إلا بعد أن تكون صورة العالم قد تبدلت تماماً عما كانته منذ ردح مديدٍ من الزمن.
*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر: الخليج – أبو ظبي
موضوعات تهمك: