نحن نتحدث ليس فقط عن أزمة زعامة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب كحضارة فحسب، وإنما عن دخول معظم دول العالم أزمتها الخاصة كل على حدة في إطار مكانتها وتسلسلها الهرمي في تقسيم العمل العالمي.
اختارت روسيا الإمساك بزمام المبادرة، ومغادرة النظام العالمي أولا، وأطلقت عمليتها العسكرية الخاصة على الأراضي الأوكرانية.
وبفضل توفر الائتمان الرخيص، بعد عام 2008، أصبحت أكثر من نصف دول العالم الآن تعاني من عجز في التجارة و/أو الحساب الجاري، أي أنها تستهلك أكثر مما تنتج، وتغطي العجز بمساعدة نمو الديون.
العملية العسكرية الروسية في عام 2022، للوهلة الأولى، قلبت العالم رأسا على عقب، إلا أن هذا العام لم يكن نقطة التغيير بين الحقب التاريخية، لكن العام المقبل لديه كل الفرص كي يصبح كذلك.
* * *
بقلم: ألكسندر نازاروف
ربما تجاوزنا نقطة اللاعودة في وقت سابق، إلا أن عام 2022 كان العام الذي أصبحت فيه عملية تفكيك النظام الدولي الراهن واضحة للجميع بلا أدنى شك.
في الوقت نفسه، نحن نتحدث ليس فقط عن أزمة زعامة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب كحضارة فحسب، وإنما عن دخول معظم دول العالم أزمتها الخاصة كل على حدة في إطار مكانتها وتسلسلها الهرمي في تقسيم العمل العالمي. فقد استنفد النظام العالمي مخزون صلاحيته على جميع المستويات، وفي جميع أجزائه.
كذلك فشلت جميع مشاريع التكامل الروسية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، ومن الصعب فعل أي شيء آخر طالما ظلت الولايات المتحدة مهيمنة على العالم.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، بحلول بداية عام 2022، من خلال شبكة من الانقلابات، قد أتمت تشكيل حزام من الدول المعادية حول روسيا، حتى أن حلفاء روسيا العسكريين، أرمينيا وكازاخستان، قد حولوا توجههم نحو الولايات المتحدة. وبيلاروس، التي تشكل دولة اتحادية مع روسيا، تعرضت للاضطراب من خلال محاولة انقلاب، ومع استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم، فإن اندلاع الحرب الأهلية هناك ليس سوى مسألة وقت. بل حاول الغرب زعزعة استقرار روسيا نفسها باستخدام المعارض الروسي أليكسي نافالني في عام 2021.
وفي عام 2021، أصبح من الواضح أن محاولة أوكرانيا تدمير دونباس، وما يلي ذلك من تورط روسيا في الحرب في أكثر اللحظات إزعاجا بالنسبة لها، ربما قبل أو أثناء انتخابات عام 2024، هو الآخر مسألة وقت، وأصبحت روسيا تواجه أزمة أمنية خطيرة.
نتيجة لذلك، اختارت روسيا الإمساك بزمام المبادرة، ومغادرة النظام العالمي أولا، وأطلقت عمليتها العسكرية الخاصة على الأراضي الأوكرانية. في واقع الأمر، لم يكن الهجوم الروسي سوى هجوم مضاد ورد فعل على حرب الغرب الجماعي ضد روسيا.
لا يبدو انتصار روسيا في العام المقبل 2023 مرجحا، إلا أنه لا يمكنها أيضا أن تخسر، بما لديها من قدرة على تدمير الولايات المتحدة الأمريكية. على أي حال، فإن موارد روسيا ضخمة، وستكون كافية لعدة سنوات من الحرب، وفي عام 2023، على الأرجح، لن نصل إلى النظر في السيناريو النووي.
ومع ذلك، يظل الشيء الأكثر أهمية، كما هو الحال دائما، الاقتصاد. فبداية التضخم العالمي المفرط هي بالضبط اللحظة التي يمكننا فيها أن نجزم على وجه اليقين أن خمس قرون من الهيمنة العالمية للحضارة الغربية قد انتهت. وقد وقع حدثان خلال عام 2022 على الطريق نحو هذه اللحظة.
أولا، قام الغرب بتدمير المبدأ الأساسي الذي ضمن ريادته الاقتصادي على مدى المئة عام الماضية: “حق الملكية الخاصة حق مقدس”. من هذا المنطلق كانت المصادرة غير القانونية ليس فقط لأصول الدولة الروسية، ولكن أيضا لممتلكات “الأوليغارشية الروسية”، أي مجرد أفراد، ليست فحسب مجرد سرقة مبتذلة، وإنما تدمير للثقة في الغرب باعتباره “ملاذا آمنا” لرؤوس الأموال، وذلك تدمير لآلية تداول رأس المال العالمي.
مجازا، يشبه ذلك متسلق يعاني من الربو، يتدلى من حافة الهاوية، ويلجأ إلى دق مسمار في الصخرة التي قد تنقذه بجهاز التنفس الاصطناعي الخاص به. ربما يحتاج المتسلق فعليا إلى دق هذا المسمار حتى لا يسقط، إلا أنه حتما سيموت غدا بسبب نقص الأكسجين. وهذا تحديدا ما فعله الغرب، حينما ضحى بجزء لا يقدر بثمن من النظام لغرض محدود هو قمع روسيا.
ثانيا، وهو الحدث الرئيسي لهذا العام، فقد استنفد الغرب في عام 2022 وسائل منع أو بالأحرى تأجيل الكارثة الاقتصادية. ليستنفد الدفعة الأخيرة من الرصاص في الكلاشينكوف برفع سعر الفائدة، محاولا بذلك وقف ارتفاع التضخم بسرعة، والذي وصل إلى رقم من خانتين لأول مرة منذ 40 عاما.
فالزيادة في سعر الفائدة تعني ببساطة الركود الذي بدأ بالفعل وإفلاس المدينين المثقلين بالديون في جميع أنحاء العالم.
وخفض سعر الفائدة واستئناف طباعة النقود الورقية غير المغطاة يعني استئناف التضخم.
على سبيل المثال، صدمت اليابان المستثمرين العالميين للمرة الأولى منذ عقد ونصف برفعها أسعار الفائدة وسط تضخم وصل 3.8%، وهو رقم قياسي منذ عام 1980. اليابان، أكبر مدين في العالم، أصبحت على وشك انهيار هرم ديونها، واستنفدت جدوى نظامها الاقتصادي.
هناك احتمال كبير (دون ضمانات لحدوث ذلك) أننا سنشهد انهيار البورصات واستئناف التيسير الكمي وارتفاع التضخم في عام 2023، ثم الانتقال إلى التضخم المفرط.
وعلى عكس المخاطر الاقتصادية، تتركز المخاطر السياسية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2024، كلما اقتربنا من الانتخابات الرئاسية، أما عام 2023، فسوف تميزه تحديات السياسة الخارجية أكثر من السياسة الداخلية الأمريكية.
وبينما كانت الجدارة الائتمانية للبلدان النامية هي المورد الأخير الذي ظل يؤخر انهيار الانظام الاقتصادي العالمي، شهدت الأزمة المالية لعام 2008 استنفاد إمكانية تحفيز اقتصادات الغرب من خلال زيادة القروض. حيث كانت الدول الغربية، قبل ذلك، تراكم الديون، ثم تخفض البنوك المركزية في الغرب سعر الفائدة وتبدأ في طباعة النقود، ما يجعل الائتمان في متناول البلدان خارج الغرب. أما بعد عام 2008، تجاوز نمو ديون البلدان النامية للبنوك الغربية بشكل ملحوظ نمو ديون الغرب. أي أن واشنطن كانت تمتص الجدارة الائتمانية، “مورد الاستقرار المالي” من بقية العالم، ما أخّر انهيار هرم ديون الغرب من خلال نمو هرم ديون البلدان النامية.
وبفضل توفر الائتمان الرخيص، بعد عام 2008، أصبحت أكثر من نصف دول العالم الآن تعاني من عجز في التجارة و/أو الحساب الجاري، أي أنها تستهلك أكثر مما تنتج، وتغطي العجز بمساعدة نمو الديون.
الآن، وبعد أن بدأت الدول الغربية في رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، أصبح الحصول على القروض أقل سهولة. وإفلاس سريلانكا في عام 2022 هو الأول، ويمكن أن تتبعه عشرات الدول الفقيرة في عام 2023، حيث فقد النظام العالمي قابليته للبقاء حيا في هذا أيضا.
كانت الصين، حتى عام 2008، تتطور كجزء من الاقتصاد الأمريكي. لكنها، بعد عام 2008، اعتمدت على تطوير السوق المحلية، فحفزت الحكومة الصينية النمو من خلال إصدار قروض للشركات، ما أدى إلى فقاعة عقارية عملاقة في البلاد، والأهم من ذلك، كان إنشاء قدرات إنتاجية عملاقة من خلال القروض التي تتطلب وصولا مضمونا إلى الأسواق العالمية.
طبعت الصين نقودا أكثر من أي دولة غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الآن تواجه خيارين كلاهما مر، إما أزمة اقتصادية أو صراعا على الأسواق العالمية مع الغرب. علاوة على ذلك، الصراع على السوق في الغرب نفسه، فإغلاق الأسواق الغربية بالنسبة للصين أمر غير مقبول، ويجعل من الضروري أن تخترق هذه الأسواق من خلال الصراع من أجل القيادة العالمية وبناء نظامها العالمي الخاص بها.
وقد اختارت الولايات المتحدة مسار الصدام مع الصين خلال إدارة ترامب، ويحتفظ بايدن بنفس المسار.
وفي عام 2022، بدأت الصين حركتها الخاصة في مسار يؤدي إلى التصادم مع الولايات المتحدة، ففوز شي جين بينغ على الفصيل الموالي للولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني يستبعد الخيارات الأخرى.
لكن الصين، في رأيي المتواضع، ستبذل قصارى جهدها لتجنب الاصطدام لأطول فترة ممكنة، وحتى إعلان استقلال تايوان، من غير المرجح أن يدفع بكين نحو اتخاذ إجراءات فورية.
أظن أن احتمالات اندلاع صراع مفتوح بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ستكون في أواخر عام 2023، ومطلع العام 2024، وفقط إذا كان أمام حزب الكومينتانغ الموالي للصين كل الفرص للفوز بالانتخابات بتايوان في النصف الأول من عام 2024. حيث ستحاول الولايات المتحدة من جانبها منع الانضمام السلمي لتايوان بالصين بأي وسيلة، بما في ذلك بواسطة الاحتجاجات الجماهيرية في الصين، وانقلاب في تايوان، وحظر الطاقة والتجارة، وغيرها من الأساليب لإثارة الحرب مع الصين.
واجهت أوروبا أيضا عدم القدرة على الحفاظ على مكانتها في النظام، حيث جاءت الهيمنة الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا بدلا من الأمن والتنمية الاقتصادية، بالحرب والإجراءات الانتحارية في قطاع الطاقة ونقل الصناعة الأوروبية إلى الولايات المتحدة.
وسوف تستمر هذه العمليات في عام2023، وسيزداد حجمها. ومع وجود مؤشرات على اقتراب إفلاس بنكي “دويتشه بنك” و”كريديه سويس”، قد يواجه النظام المصرفي الأوروبي في عام 2023 الصدمة والشلل، على الرغم من أن ذلك ليس سوى أحد السيناريوهات المحتملة. على أية حال، فإن انهيار الاتحاد الأوروبي ليس سوى مسألة وقت.
على الرغم من حقيقة أن العملية العسكرية الروسية في عام 2022، للوهلة الأولى، قلبت العالم رأسا على عقب، إلا أن هذا العام لم يكن نقطة التغيير بين الحقب التاريخية، لكن العام المقبل لديه كل الفرص كي يصبح كذلك. لهذا أعتقد أنه سيكون أكثر صعوبة، وتوترا بالنسبة للجميع.
* ألكسندر نازاروف محلل سياسي روسي
المصدر: روسيا اليوم
موضوعات تهمك: