لم يحاول مشروع 1619 استبدال تاريخ أميركا، بل كان محاولة ناجحة لسد فراغ كبير لم يتطرق إليه الكثيرون من قبل.
نجح مشروع 1619 في إلقاء الضوء على تاريخ وإرث العبودية بأميركا وكيف يمكن من خلال العبودية فهم ظواهر كثيرة معاصرة ترتبط بالأميركيين من أصول أفريقية.
يؤكد 60% من المدرسين أن الكتب المدرسية فشلت في تغطية العبودية في حين لا يعرف أغلبية طلاب الثانوية أن العبودية كانت السبب الرئيس للحرب الأهلية.
قدمت 35 ولاية محافظة مشاريع قوانين لتقييد تدريس التاريخ اعتمادا على “النظرية النقدية” التي تركز على إرث العنصرية المنهجية لفهم تاريخ أميركا خاصة عند بدايته.
اعتبرت نيويورك تايمز النقاش حول تأثير العبودية والعنصرية: “انتصار صحفي غيّر الطريقة التي يفهم بها ملايين الأميركيين بلادهم” وأن “المراجعة والتوضيح جزءان هامان من التحقيق التاريخي”.
* * *
بقلم: محمد المنشاوي
حددت الحكومة الأميركية شهر فبراير/شباط ليصبح “شهر الأميركيين الأفارقة”، حيث يتم الاحتفال منذ 1926 بمساهمات الأميركيين السود في الحياة الأميركية. وتم اختيار فبراير/شباط بتزامن مع عيدي ميلاد الرئيس أبراهام لينكون الموقع على إعلان تحرير العبيد، وفريدريك دوغلاس الذي قاتل ضد العبودية. ويدفع هذا الشهر لتجديد النقاش والجدل بشأن مرحلة العبودية في التاريخ الأميركي، وهو الجدل الذي احتد بشدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
فقد بادرت صحيفة نيويورك تايمز قبل 3 أعوام بالتركيز على الذكرى الـ400 لبدء العبودية في الأراضي الأميركية، واقترحت الصحيفة أن يعتبر عام 1619 “عام ميلاد أمتنا”.
وقبل أكثر من 400 عام وفي أغسطس/آب 1619، تم خطف نحو 20 رجلا من أنغولا الحالية، وتم تقييدهم بالسلاسل وبيعهم إلى المستعمرين البريطانيين في منطقة جيمس تاون بولاية فرجينيا الحالية.
وقالت الصحيفة الأميركية الأهم إن تاريخ بدء العبودية في المستعمرات البريطانية يجب أن يكون تاريخا مفصليا في التأريخ للدولة الأميركية مثله مثل تاريخ توقيع إعلان الاستقلال في عام 1776.
واعتبرت الكاتبة نيكول هانا جونز، في عدد من المقالات، أن الأمة الجديدة آنذاك كانت “عبيدوقراطية” (Slavocracy) أكثر من كونها “ديمقراطية” (Democracy)، وأن المثل العليا التأسيسية للدولة الأميركية كالمساواة والحرية كانت “كذبة”، وحصلت الكاتبة على جائزة بوليتزر المرموقة عن هذه المقالات.
وخرجت الكثير من الكتابات فيما عُرف بمشروع 1619 ليوثق ويتتبع تأثير العبودية على الحياة الأميركية المعاصرة سواء في السياسة، أو العدالة الجنائية، أو الرعاية الصحية، أو الاقتصاد وتوزيع الثروة.
وتم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية، والكتب التي تم إرسال مئات الآلاف من نسخها إلى المكتبات العامة والمدارس. وسرعان ما تكونت جبهة جديدة في حرب أميركا الثقافية. من جانبهم، رفض الجمهوريون في أغلبهم هذا الطرح، واعتبرته شبكة فوكس الإخبارية بمثابة “هجوم على أميركا نفسها”.
وجادلت صحيفة نيويورك تايمز بأن التقدم نحو المساواة العرقية بين البيض والسود في أميركا ما هو إلا سراب، إذ إن جذور العنصرية تخترق الحمض النووي “دي إن إيه” (DNA) لهذا البلد.
وكتبت هانا جونز أن “نظام الطبقات العرقية” الأميركي تم وضعه قبل تأسيس البلاد، وأن “أحد الأسباب الرئيسية” لإعلان قادة المستعمرات الأولى في شمال أميركا الاستقلال عن بريطانيا هو “أنهم أرادوا حماية نظام العبودية”.
وكتبت كذلك أن الآباء المؤسسين مثل توماس جيفرسون وجورج واشنطن وجون آدمز وغيرهم، ممن صاغوا إعلان الاستقلال، كانوا من ملاك العبيد، ومكّنهم الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية من الحفاظ على “الأرباح المذهلة التي ولدتها عبودية السود الأفارقة”.
وقالت هانا جونز إن الأميركيين السود كانوا وحدهم إلى حد كبير من يناضلون من أجل الحرية والمساواة، وهو ما يجعلهم “الآباء المؤسسين الحقيقيين لهذه الأمة”. ويجادل مشروع 1619 بأن العنصرية المنهجية، التي هي إرث العبودية، لا تزال متجذرة بعمق في كل مؤسسة أميركية، ولا تزال عاملا دائما في حياة الأميركيين السود.
أشعلت هذه الآراء نقاشا حادا لم يتوقف بعد
وتعرضت رؤية مشروع 1619 للكثير من الهجوم من قِبل أكاديميين ومؤرخين، وجادلوا في دوافع عدم التطرق للعبودية في وثيقة الدستور الأميركي وإعلان الاستقلال. ورفض المحافظون فرضية أن العبودية والقمع العنصري يجب أن يكونا موضوعين مركزيين في تاريخ الولايات المتحدة.
واعتبر بريت ستيفنز، الكاتب المحافظ بصحيفة نيويورك تايمز (صاحبة المبادرة)، أن المشروع قاصر في تبسيطه، وفشل في الدفاع عن ادعاءاته المثيرة للجدل.
وقال إنه رغم أن الآباء المؤسسين كان لديهم أخطاء، فإن ما جعل هذا البلد استثنائيا لم يكن العبودية، بل المبدأ التأسيسي الثوري الأميركي بأن “جميع البشر خلقوا متساوين”، إضافة إلى أكثر من 250 عاما من النضال من أجل تحقيق مثلها العليا.
وأتهم الرئيس السابق دونالد ترامب مشروع 1619، وقال إنه يهدف إلى “تلقين أطفالنا كراهية أميركا”.
ثم تراجعت صحيفة نيويورك تايمز قليلا، وقالت إن الثورة لم تكن ضد بريطانيا من أجل الاستقلال لحماية نظام العبودية فقط، فقد ثار الكثيرون لأسباب تتعلق بالحرية وغيرها. ثم تراجعت الكاتبة هانا جونز وقالت إن “عام 1619 هو تاريخ تأسيس أميركا الحقيقي”.
في الوقت ذاته، لم تتبرأ صحيفة نيويورك تايمز من مبادرتها، واعتبرت أن النقاش العميق حول التأثير الدائم للعبودية والعنصرية هو “انتصار صحفي غير الطريقة التي يفهم بها ملايين الأميركيين بلدهم”، وأن “المراجعة والتوضيح جزءان هامان من التحقيق التاريخي”.
نجح مشروع 1619 في إلقاء الكثير من الضوء على تاريخ وإرث العبودية في أميركا، وكيف يمكن من خلال العبودية فهم الكثير من الظواهر المعاصرة المرتبطة بالأميركيين من أصول أفريقية.
وزادت أهمية المشروع مع تأكيد 60% من المدرسين أن كتبهم المدرسية فشلت في تغطية العبودية بشكل كاف، في وقت لا يعرف فيه أغلبية طلاب المدارس الثانوية حتى أن العبودية كانت السبب الرئيسي للحرب الأهلية.
في النهاية، لم يحاول مشروع 1619 استبدال تاريخ أميركا، بل كان محاولة ناجحة لسد فراغ كبير لم يتطرق إليه الكثيرون من قبل.
بيد أن القوة المحافظة الأميركية لا تراه كذلك، فقد قدمت 35 ولاية مشاريع قوانين، أو اتخذت خطوات أخرى لتقييد تدريس التاريخ اعتمادا على منهج “النظرية النقدية” (Critical Theory)، وهو النهج الذي يركز على إرث العنصرية المنهجية لفهم تاريخ أميركا خاصة عند بدايته.
* محمد المِنشاوي كاتب ومحلل سياسي في الشأن الأميركي من واشنطن
المصدر| الجزيرة نت
موضوعات تهمك: