المحتويات
يوم الأرض: تذكيرٌ بما هو مفصلي في فلسطين
- يستحضر “يوم الأرض” ذكرى الإضراب العام عام 1976 احتجاجاً على “مشروع تهويد الجليل” الذي أعلنته الحكومة الإسرائيلية.
- إخضاع الفلسطينيين لحكم عسكري يعني حياة يَنْظمها منع التجوّل واعتقالات تعسفيّة وسيطرة سياسية واقتصادية والأهم: سيطرة اجتماعية عليهم.
- كان على الفلسطينيين في إسرائيل الخضوع لتدخّل الدولة ووكالاتها في جميع مناحي حياتهم. رُفع الحكم العسكري في العام 1966، إلا أن الضرر الاجتماعي الذي خلّفته هذه السيطرة التامة لا يزال ملموساً ومرئياً.
- عبثا حاول الفلسطينيون إيقاف تهويد الجليل بالمفاوضات مما أدّى بلجنة الدفاع للتفكير بأدوات احتجاج أخرى وقرّرت إعلان الإضراب العام.
****
بقلم | كوثر قديري
اثنتان وأربعون سنة تفصل يوم الأرض عن مسيرة العودة الكبرى في غزّة، وهما كلاهما احتجاجاً على الأسس الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية، كما هو أي استعمارٍ استيطاني، تتركّز معانيه في بعدَين: الأرض والإنسان.
عندما طُلب منّي أن أكتب عن يوم الأرض، كان أوّل ما خطر في بالي هو الكم الكبير من المقالات التي نُشِرت في هذا الشأن، بما أن الإحياء السنوي لهذه الذكرى يستدعي المزيد والمزيد من المقالات والآراء في كل عام. ما الذي لم نقله عن يوم الأرض بعد؟ أو عن القضيّة الفلسطينيّة عموماً؟ كل ما هو هام قيل وكُتب مراراً إلى أن صار الأمر مكروراً بلا جديد.
إلا أنّ هذا ما يعنيه إحياء الذكرى أصلاً: التذكّر التأريخي لحدث، وتذكير بالنضالات وبالتضحيات، والأهمّ – التذكير بالمقاومة والاستمرارية التاريخية. تسمح لنا الذكرى بأن ننظر إلى الوراء، وأن نقيّم الحاضر.
الحاضر الذي وإن كان قاتماً، غير أنّ مقاومة سياسات الاستعمار الاستيطاني فيه لم تنقطع أبداً، كما رأينا على سبيل المثال لا الحصر في مسيرة العودة الكبرى المستمرّة إلى الآن ومنذ أكثر من عامٍ.
ومع هذا، فأثناء البحث عن زاويةٍ أو توجّه ملائم لتناول الذكرى، لم أتمكّن من الامتناع عن التفكير بمناسبات أخرى نتذكّرها: مثل مؤتمر باريس للسلام، ولجنة كينغ – كراين الأمريكية للتحقيق.
(عيّنها الرئيس الأمريكي ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 وكانت مهمتها الرسمية “الوقوف على آراء أبناء سوريا وفلسطين في مستقبل بلادهم”) في نهايات عهد الامبراطورية العثمانية، وكيف كانت هذه تفرض بشكل أحادي معاييرها في الحقوق السياسية ومطالب الشعوب المستعمْرَة عموماً، والشعب الفلسطيني تحديداً.
لكنّ يوم الأرض ومسيرة العودة الكبرى، بالإضافة للانتفاضات كذلك، أثبتوا أنهم قادرون على تحدّي النظام المكرّس والخلل الشامل.
وعليه، فإننا في هذا العام لا نحيي الذكرى الرابعة والثلاثين ليوم الأرض فقط، ولا الذكرى المئة لمؤتمر باريس للسلام وتقرير لجنة كينغ- كراين ذاك، وإنما الذكرى الأولى لمسيرة العودة أيضاً.
وهو عام انتخابات إسرائيلية أيضاً، وأعوام الانتخابات هي الأكثر دموية على الفلسطينيين عادةً. يصرّح المرشّحون الإسرائيليّون بأحقر وأوقح المزايدات فيما بينهم، بدءاً بتصريح بنيامين نتنياهو عن أن “إسرائيل ليست دولة جميع المواطنين، وإنما دولة الشعب اليهودي فقط”.
وهو تصريح يذكّرنا بأن نضال الفلسطينيين هو أولاً وبالأساس نضال من أجل الحقوق المدنية والسياسية. ثم جاءت الدعاية المستفزّة من وزيرة القضاء الإسرائيليّة وهي من اليمين المتطرّف، آييليت شاكيد، والتي حاولت في إعلانها تطبيع الفاشية الإسرائيلية بوصفها ديمقراطية.
مؤتمر باريس وصيغة استعماريّة لحق تقرير المصير
في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، عُقد مؤتمر باريس للسلام في فرنسا من أجل تحديد مستقبل قوى “المحور” المهزومة. في حين بحثت لجنة “الأربعة الكبار”، بقيادة أمريكية، مصير مناطق الامبراطورية العثمانية، قرّرت بالتوازي إرسال بعثة مشتركة لإجراء أول دراسةٍ حول رغبات السكان في سوريا الكبرى.
كان يُفترض بهذه المبادرة أن تكون متوافقةً مع مبادئ ويلسون حول تقرير المصير التي تمَ تبنّيها حديثاً، وهي صيغة لهذا الحقّ تتوافق مع مصالح القوى الاستعمارية بعكس الصيغة اللينينية لحق تقرير المصير.
قرّرت القوى الأوروبية الانسحاب من اللجنة في نهاية المطاف، خشية نتائجها المتوقّعة. هكذا، عيّن رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وودرو ويلسون، لجنة أمريكيّة بالكامل لتجمع لأوّل مرّة أفكار وطموحات السكان الأصلانيين من أجل تحديد مصير سوريا.
عادت البعثة بتقريرٍ في آب/ أغسطس 1919، وكانت استنتاجات التقرير تستبعد مقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، وذلك بناءً على أن السكّان قد عبّروا عن رغبتهم بسوريا عربية موحدة. لكنّ التقرير شدد في الوقت عينه على عجز السوريين عن حكم أنفسهم، ولذلك أوصت اللجنة بتأسيس حكمٍ انتدابي.
في الوقت ذاته، شرع مؤتمر باريس للسلام بتقسيم المنطقة العربية وبتجزئة النضالات من أجل الاستقلال. هكذا، قسّم مؤتمر باريس للسلام الامبراطورية العثمانية وأطلقت “الصيغة الاستعمارية” لمبدأ تقرير المصير.
قفزة إلى يوم الأرض
يستحضر “يوم الأرض” ذكرى الإضراب العام الذي نظّمته “اللجنة الوطنية للدفاع عن الأراضي العربية” عام 1976 احتجاجاً على “مشروع تهويد الجليل” الذي أعلنته الحكومة الإسرائيلية. كان المشروع مطروحاً منذ مدة طويلة، وحاول الفلسطينيون إيقافه من خلال المفاوضات، إلا أن الحكومة الإسرائيليّة لم تعلن خطّتها بشكلٍ رسميّ إلا في العام 1976، وهو ما أدّى بلجنة الدفاع إلى التفكير بأدوات احتجاجية أخرى، وقرّرت بالتالي إعلان الإضراب العام. كانت تلك خطوة مميزّة، انخرط فيها فلسطينيّو الأراضي المحتلّة ومخيمات اللجوء كذلك، ودعوا للتظاهر والاحتجاج في كلّ أنحاء فلسطين. أطلقت السلطات الإسرائيلية إجراءات قمعية شديدة، وقتلت ستة من فلسطينيي الداخل، وجرحت واعتقلت مئات المتظاهرين.
منذ ذلك الوقت، يُعتبر يوم الأرض يوماً مركزياً في النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال. كانت المرّة الأولى التي يتّحدْ فيها الفلسطينيون من مواطني إسرائيل وينتظمون للاحتجاج على المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي.
بالحقيقة، فإن الفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء فيما أصبح إسرائيل، واجهوا اختفاء عالمهم واستبداله بكيان معادٍ قرّر أن يخضعهم للحكم العسكري، مع ما يعنيه ذلك من حياة يَنْظمها منع التجوّل والاعتقالات التعسفيّة والسيطرة السياسية والاقتصادية، والأهم: السيطرة الاجتماعية عليهم.
لأكثر من 20 عاماً، كان على الفلسطينيين في إسرائيل الخضوع لتدخّل الدولة ووكالاتها في جميع مناحي حياتهم. رُفع الحكم العسكريّ في العام 1966، إلا أن الضرر الاجتماعيّ الذي خلّفته هذه السيطرة التامّة ما يزال ملموساً ومرئياً.
مسيرة العودة الكبرى في غزة
شهد العام المنصرم إحياءً فعالاً لذكرى يوم الأرض، حيث نظّم اللاجئون الفلسطينّون في غزّة ما أطلقوا عليه اسم “مسيرة العودة الكبرى”، مصممين على التظاهر من أجل حقّهم في العودة الى مناطقهم التي هجروا منها وإنهاء الحصار الذي يعيشون في ظله منذ العام 2007. أهمية المسيرة مضاعفة:
أولاً، لأنها رغم تشظي وانقسام الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، علاوة على الانقسام السياسي، فإن البيان الأول للمسيرات يظهر منه السعي لترسيخها كاستمرارية للنضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني. ثانياً، إنّه يُظهر أسبوعياً إصرار وعزيمة الفلسطينيين في غزة.
تماماً مثل يوم الأرض الأول، كانت المسيرات هدفاً للسلطات الإسرائيلية التي أعطت الضوء الأخضر للجيش لارتكاب ما يريد. وما أراده كان شلّ الفلسطينيين، بل إيقافهم كلياً. أعطي الجنود الإسرائيليين أوامر بإطلاق النار بهدف القتل. وبالفعل فقد التزم الجنود أوامرهم بكل جدية، فقتلوا 270 فلسطينياً، وأصابوا أكثر من 15 ألفاً منذ بدأت الاحتجاجات.
التفكير بتوجّهات أصلانيّة مستقلّة لتفكيك الاستعمار
على الرغم من أنّ 42 سنة تفصل بين يوم الأرض ومسيرة العودة الكبرى، إلا أن كليهما يحتجّان ضد الأسس الأعمق للصهيونية كإستعمار استيطاني، أو أيّ استعمار استيطاني، حيث تركّزت الاحتجاجات في بُعدين: الأرض والإنسان.
يوم الأرض هو للتذكّر بأن الفلسطينيين لا يواجهون أي استعمارٍ أو احتلال، أو مجرد حركة قومية منافسة لهم، إنما يواجهون استعماراً استيطانياً. إن مسار الاستعمار الاستيطاني معروف من خلال دراسة الحالة الأمريكية، الأسترالية، الجنوب أفريقية، الأيرلندية، والجزائرية. فلسطين هي آخر مستعمَرة مستوطنين في العالم، ولا مجال إلا لرؤية ذلك في كل خطوة اتخذها الصهاينة منذ قرار المنظمة الصهيونية الاستيطان في فلسطين، وكانت كلها باتجاه الهدف ذاته: محو العرب الفلسطينيين وإحلال المستعمِرين ليصبحوا هم، بالتالي، الشعوب الأصلية في فلسطين.
هذا النظام الاستعماري الاستيطاني كسب شرعية على المستوى الدولي. الولايات المتّحدة، وهي بنفسها مشروع استعمارٍ استيطاني، اعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وهي تعترف الآن بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السوري. وكما في القدس، أطلقت تصريحات عديدة تستنكر الخطوة الأمريكية دون اتخاذ أي إجراءات فعلية.
يتسارع هذا الاستعمار الاستيطاني يوماً بعد يوم، وتكمن أهمية مناسبات مثل يوم الأرض في تذكيرنا بأنّ مناهضة الاستعمار والتحرّر والاستقلال هي الخطوات الأولى والأساسية في سبيل التغلب على السرديّات السائدة، وبناء وتقديم توجهات أصلانية مستقلّة لتفكيك الاستعمار، ولاختراع طرق للنضال ضد الاستعمار الاستيطاني.
* د. كوثر قديري أستاذة جامعية من تونس مختصة بتاريخ نشوء الحركة الصهيونية.
المصدر | السفير العربي
موضوعات تهمك:
عرب فلسطين يصرون على عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيونى
عذراً التعليقات مغلقة