المحتويات
يوميات مدرّعة أسدية.. كنت.. ملهاة صرت
يحكى أن … من الحديد الصلب صنعت ولأجل الحروب خصصت القتل تخصصي والتدمير واجبي. تدرب على جسدي أفواج كثيرة تعلموا فنون القتال وأساليب الرمي على مدفعي . تنقلت كثيرا بين وديان ورمال البادية في رحلات استعدادية تمهيدا لمعركة كبرى أو هكذا كان يقال.
أعتدت على تغير الطاقم الذي يمتطي صهوتي ولم أعترض على هذا يوما، خلال السنين التي عشتها في هذا الموقع العسكري تغيرت الوجوه مرارا وتكرارا مجموعة تأتي وأخرى ترحل حتى صار تغيير من يتوكل بي اعتياديا يحصل كل سنتين مرة. ومرّ علي الآباء ثم أبناءهم، وهكذا تدرب على صهوتي الأجيال على أمل أن يخوضوا معركة التحرير الكبيرة، معركة يسطرون فيها الأمجاد ويحررون الأرض المحتلة ويستعيدون الكرامة المهدورة على هكذا خدموا في جيش الوطن وهذه كانت أحلامهم.
إلى أن أتى ذاك اليوم الذي غادرت به ساحات التدريب وجبهات القتال ووطأت قلب الوطن في رحلة عنوانها قمع حرية وخنق كرامة .. زحفت بين البيوت الآمنة وعبرت الشوارع المعبدة ومررت في وسط حشود غاضبة وأخيرا آل المآل في ترحالي حول سوريا إلى حاجز على تخوم مدينة، وكانت هذه الرحلة بداية لمشاهد كثيرة لنتابعها معا.
المشهد الأول:
استقر بنا المطاف على طريق دولي بعد رحلة طويلة من مقر إقامتي على جبهة الجولان المتاخمة للعدو الإسرائيلي، وتنقلت إليها على متن ناقلة ضخمة، وفي ظل حراسة مشددة قدمت واستقريت على ذاك الطريق الدولي، يحيط بي جنود متحمسون يتناقلون الأحاديث همساً عن أسباب تواجدنا في هذا المكان بعيدا عن حدود البلاد؛ فمنهم من يقول:” تسربت عصابات صهيونية وجئنا لمحاربتها”، ومنهم من يقول بصوت لا يكاد يسمع ولصديقه المقرب فقط:
“لقد جئنا لنحارب أهلنا الذين خرجوا احتجاجا على النظام الجائر” فيهدّأ الصديق من روعه ويخفف من مخاوفه قائلا:
“لننتظر ما يكون وبعدها نرى ما نفعل”.
ويسكت الصديق على مضض بعد أن يستخلص وعداً منه:
“عدني أن نهرب عند صدور أية أوامر لنا بقتل أهلنا في تلك القرى المنتشرة حولنا…عدني بذلك” وتعاهدا.
المشهد الثاني:
قبعت في حفرة عميقة وقد صبغوا جلدي بلون آخر لم أعهده سابقا، وكتبوا على لوني الأزرق الجديد
(قوات حفظ النظام) لم أفهم مدلولات ذلك ولكنهم كانوا يدثرونني بغطاء سميك يخفيني تحته كلّما وصل رجال القبعات الزرق (مراقبو الأمم المتحدة) كما كانوا يطلقون عليهم ، وقد كنت أسترق السمع من مخبئي فأسمع خطاب قادة المفرزة يتحدثون لهم بلهجة فيها خنوع واستسلام وتزلل لم أعهدها منهم أبداً ،فأفهم من خلال تصرفاتهم تلك أن وجودي في هذا المكان يزعج أصحاب القبعات الزرق ولا بدّ من اختفائي عن أنظارهم .
المشهد الثالث:
لم يطل بي المقام طويلا في تلك الحفرة فقد أخرجوني على عجل في يوم جمعة وأوقفوني ليس بعيداً خلف ساتر رملي ثم بدأوا يرمون عبر مدفعي الشامخ البيوتالآمنة االقابعة خلف الجبال وهم يرددون :”عملاء متخاذلون أقصفوهم بلا رحمة” وتكررت مهمتي على مدى الأيام طويلة حتى غدت مهمة يومية ولم ألحظ فروقاً على مدار الأيام إلا ما كنت أشهده يومياً من توتر في أعصاب الشباب وانحسار عددهم حتى صاروا يعدون بالعشرات بعد أن كانوا بالمئاتّ!
المشهد الرابع:
ومع مر الأيام صرت أقف في مكاني باستمرار ولا أعود إلى مخدعي أبداً عمل دائم على مدار الساعات، قصف بمدفعي ورمي برشاشي، كل ذلك ولا أحد يلتفت إلي بمسحة حنان أو جرعة تنظيف وصيانة حتى كادت سبطانة مدفعي تتمزق من كثرة القذائف التي تمر خلالها، كنت ألهث تعبة فقد صرت بين أيديهم كلعبة في يدي صبي مشاكس، لا يلبث أحدهم أن ينزل عن صهوتي حتى يعلوها آخر، ويبدأ الرمي بعشوائية مضحكة تثير الاشمئزاز والسخرية على حد سواء، وأضحيت بمرور الأيام أشعر أنني جسد بيع لحثالة يفرغون فيه غرائزهم بوحشية ثم يستلقون كوحش كاسر جريح خارت قواه.
المشهد الخامس :
لم يكد ذاك الصبح ينبلج حتى انهالت علينا القذائف من كلّ حدب وصوب، وأصوات التكبير تأتينا من كل جانب، كنت أرى الهلع في عيون القلة المتبقية من الشباب الذين تحلقوا حولي وفي داخلي، علَّ الحديد المصفح الذي جبلت منه يقيهم شر الرصاص المنهمر من مختلف الاتجاهات ، ولم يدم الحال طويلا فقد قرروا أثر مشاورات سريعة لم تدم ثوان معدودة الاستسلام ورفعوا راية بيضاء صاغوها على عجل من أشلاء سراويلهم الداخلية سرعان ما انتصبت على رؤوس بنادقهم، وبعجالة طوقتنا مجموعة كبيرة من الثوار واقتادوهم بعيدا عني فيما تحلق حولي مجموعة أخرى وهم يكبرون فرحين بنصر كتبه الله لهم في عليائه. ….
المشهد السادس:
تفحصني القوم بهمّة وهم يرددون الأهازيج تعكس نشوة المنتصر ثم انتخبوا من بينهم فارسا ذو خبرة تطوع لاقتيادي، شعرت أنه فارس بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فقد أدار محركي بخبرة ثم استقر وراء مقودي كفارس شجاع تباعدت بينه الأزمان منذ اعتلى آخر مرة صهوة جواد ثم ساقني باقتدار صوب الجبال العالية وسط تكبيرات زملائه وزغردات النسوة في القرى التي مررنا بها عصر ذاك اليوم الجميل.
المشهد السابع:
تعالت الأصوات واحتدم النقاش بين الفرسان الجدد الذين اعتلوا صهوتي فرحين بما آل إليه مصيري بين أيديهم “بها صرنا أقوى” قال أحدهم ….. “بها سنقتحم الحاجز الفلاني” صاح آخر ……… “بفضلها لن يستطيع الشبيحة اقتحام قريتنا” غرد كبيرهم …….. وبين تعليق ذلك وفرح هذا و زغردات النساء المنتشرات فوق الأسطح يراقبن مشهد الانتصار، وفي جلبة كل هذا حلقت فوقنا طائرة اندفعت نحونا تطلب الانتقام لجنودها المنهزمين وحاجزهم الذي انهار على عجل
أطلقت وابل نيرانها بحقد كانت تقصدني بنيرانها لتحرم الثوار من غنيمة حصلوا عليها تقويهم وتجعلهم أكثر ثقة، انتشر الجمع على عجل فيما تابعت الطائرة قصفها فأصابت مؤخرتي واشتعلت بي النيران فيما تناثر جثمان عدد من رفاقي الجدد بين شهيد وجريح.
المشهد الثامن:
في أسى لملم أهل القرية أشلاء الضحايا وأسعفوا الجرحى ومن ثم نقلوا جثامين شهدائهم في موكب مهيب يسبقه تكبيرات الرجال وزغردات النسوة.
المشهد التاسع:
بعد أن أطفأ الرجال النيران المندلعة في جسدي تفحصني خبير على عجل دار حولي واختبر مغلاق مدفعي الرشاش ثم تحدث للجمع بصوت مرتفع:” لم تعد تصلح لشيء ،”أضحت عبارة عن كومة حديد” فهمت من حديثه أنه يمنحني صك وفاة شفهي، وتساءلت في نفسي أين مثواي الأخير.
المشهد الأخير:
على جانب الطريق وتحت سنديانة عتيقة، غير بعيد عن مكان إصابتي بتلك الطائرة اللعينة استقر بي المطاف بعد أن تعاون سكان القرية بجراراتهم على سحبي أمتارا قليلة عن الطريق. وفي النسيم العليل تحت شجرة السنديان تلك، قررت أن أغفو بسلام إلى الأبد لولا صرخات الأطفال وجلجلة ضحكاتهم الفرحة وهم ينسجون حبال أرجوحتهم في قمة مدفعي، في حين عمد الصبية لاستخدام سبطانة مدفعي للتزحلق، بينما انتشرت مجموعة أخرى لتجعل من جوفي متاهة يتسابقون خلالها، وهكذا صرت أصحو من غفوتي الأزلية كل صباح على زقزقات الأطفال وهم يلهون بجسدي المعدني الفظ كمدينة ملاهٍ عصرية.
موضوعات تهمك:
- للمزيد: فضيحة وأشرار
عذراً التعليقات مغلقة