بقلم: جوناثان كوك
هل قامت “إسرائيل” سرا بتغذية الادعاءات بوجود موجة معاداة للسامية، كان يزعم أنها اجتاحت حزب العمال البريطاني، منذ انتخاب زعيمه الجديد، جيريمي كوربين، قبل ثلاث سنوات؟ هذا السؤال تمت إثارته على إثر طلب للحصول على معلومات، تقدمت به هذا الأسبوع مجموعة من المحامين والأكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان في “إسرائيل”.
ويشتبه هؤلاء في أن اثنين من الوزارات في الحكومة الإسرائيلية، وهما وزارتا الخارجية والشؤون الاستراتيجية، لعبتا دورا في تقويض صورة جيريمي كوربين، وذلك في إطار حملة واسعة شنتها حكومة نتنياهو لاستهداف النشطاء المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
وتعتمد وزارة الخارجية الإسرائيلية على مجموعة من الموظفين في سفارتها في لندن، وقد أصبح هؤلاء في دائرة الشك، بشأن تدخلهم في السياسة الداخلية البريطانية، على إثر تحقيق استقصائي سري أذاعته قناة الجزيرة خلال العام الماضي. وقد قام إيتاي ماك، المحامي الإسرائيلي، بتقديم طلب كتابي لوزارتي الخارجية والشؤون الاستراتيجية، بغرض النفاذ إلى معلومات حول علاقات “إسرائيل” الخارجية، وفرضية تمويلها لنشطاء معارضين لكوربين، ولوبيات مساندة لـ”إسرائيل” في بريطانيا.
ويهدف هذا الطلب الذي تقدم به المحامي؛ إلى الحصول على معلومات دقيقة حول العلاقات بين مجلس نواب يهود بريطانيا، وجمعية حماية الجالية اليهودية في بريطانيا، وأعضاء لجنة أصدقاء “إسرائيل” في حزب العمال، ولجنة أصدقاء “إسرائيل” في حزب المحافظين. كما ينص هذا الطلب على تقديم معلومات حول وجود أي محاولات قامت بها الوزارتان الإسرائيليتان، والسفارة الإسرائيلية في لندن، للتأثير على الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني في لندن.
وتأتي هذه الخطوة في أعقاب الهجوم الذي شنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، في شبكات التواصل الاجتماعي، حين اتهم كوربين بأنه قام في سنة 2014 في تونس بوضع إكليل من الزهور، على ضريح منتمين إلى فصيل فلسطيني قام سابقا باحتجاز رياضيين إسرائيليين في الألعاب الأولمبية في ميونخ في سنة 1972. ويذكر أن 11 إسرائيليا قتلوا خلال عملية الإنقاذ الفاشلة، التي نفذتها الاستخبارات الألمانية لتحرير الرهائن.
ويأتي هذا التدخل المفضوح من نتنياهو في الشؤون البريطانية، في أعقاب جملة من الادعاءات المماثلة التي تم شنها في وسائل الإعلام البريطانية ضد كوربين على مدى أيام عديدة.
وقد أكد زعيم حزب العمال في رده على هذه الاتهامات، على أن إكليل الزهور تم وضعه كتكريم لتونسيين وفلسطينيين من ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الأراضي التونسية في 1985، ضمن عملية كان قد أعقبها تنديد دولي واسع من أغلب قادة الدول الغربية.
“حرب ضد اليهود”
هذه الاتهامات الموجهة لكوربين بدعم إرهابيين فلسطينيين، تمثل تصعيدا جديدا في إطار حملة متواصلة، تزعم أن هنالك انتشارا كبيرا لمعاداة السامية داخل صفوف حزب العمال، منذ أن أصبح كوربين زعيما له. وقد انتشرت هذه المعلومات في وسائل الإعلام، رغم أن الإحصائيات تظهر أن هذا الحزب ليس أكثر معاداة للسامية من حزب المحافظين الحاكم حاليا، والمجتمع البريطاني بشكل عام.
ورغم أن هذه الاتهامات بمعاداة السامية كانت في البداية تستهدف أنصار كوربين في الحزب، إلا أنها باتت في الآونة الأخيرة موجهة له شخصيا.
وخلال هذا الأسبوع، كانت النائبة البرلمانية جوان ريان، التي تترأس مجموعة “النواب أصدقاء “إسرائيل” في حزب العمال”، قد كتبت تعليقا في صحيفة “جويش كرونيكل” اليهودية، توجه فيه لوما مباشرا إلى كوربين، حول ما أسمته “أزمة معاداة السامية في الحزب”.
وقالت جوان “إن مشكلة حزب العمال تفاقمت بسبب ارتباطاته السابقة بمنكري الهولوكوست، والإرهابيين، ومن لا يخفون معاداتهم للسامية”.
وكانت زميلتها في البرلمان مارغريت هودج قد وصفت في وقت سابقا كوربين بأنه “معاد للسامية وعنصري”.
أما ماري فان دير زيل، رئيسة مجلس نواب اليهود البريطانيين، فقد ظهرت هذا الأسبوع على قناة i24 الإسرائيلية الناطقة بالإنجليزية، لتهاجم كوربين قائلة: “إن الأمر يبدو كما لو أن جيريمي كوربين أعلن الحرب على اليهود… نحن الجالية اليهودية بتنا نقضي وقتا في الصراع ضد زعيم المعارضة.”
كما ظهرت مؤخرا مجموعة أخرى بريطانية، تحمل اسم “الحملة ضد معاداة السامية”، وقد طلبت خلال هذا الأسبوع شهادات بعض يهود بريطانيا، في إطار دعوى قضائية تقدمت بها لدى اللجنة البريطانية للمساواة وحقوق الإنسان، تزعم أن هنالك عنصرية داخل مؤسسات حزب العمال.
التدخل الإسرائيلي
ولا تعد التغريدة التي نشرها نتنياهو أول دليل على التدخل الكبير لـ”إسرائيل” في شؤون حزب العمال. إذ أنه في كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان جلعاد أردان، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، والحليف المقرب من نتنياهو، قد وجه اتهامات لكوربين بأنه معاد للسامية.
تم إصدار توجيهات للوبي الإسرائيلي في بريطانيا، بنشر المزاعم حول قيام كوربين بعقد مقارنة بين “إسرائيل” وألمانيا النازية، رغم أن هذه المزاعم مبنية على سوء فهم لتقرير نشرته صحيفة التايمز البريطانية
وقد نقلت وسائل إعلام عنه قوله: “نحن نرى ونفهم أن هنالك آراء معادية للسامية لدى العديد من الزعامات الحالية في حزب العمال”.
وقد تم خلال هذا الشهر استخدام تطبيق هواتف ذكي مطور في وزارة الشؤون الاستراتيجية في “إسرائيل”، من أجل تضخيم انتقادات مغلوطة موجهة لكوربين على مواقع التواصل الاجتماعي، تزعم أنه أدلى بتعليقات معادية للسامية في اجتماع في سنة 2010.
وقد تم إصدار توجيهات للوبي الإسرائيلي في بريطانيا، بنشر المزاعم حول قيام كوربين بعقد مقارنة بين “إسرائيل” وألمانيا النازية، رغم أن هذه المزاعم مبنية على سوء فهم لتقرير نشرته صحيفة التايمز البريطانية. وفي الواقع، كان كوربين حينها قد حضر اجتماعا لمناهضة العنصرية، والشخص الذي عقد هذه المقارنة بين “إسرائيل” والنازية، هو يهودي من الناجين من المحرقة.
وبينما أثارت هذه التدخلات الخارجية غضب كوربين والعديد من أنصاره، فإن هنالك أدلة متزايدة حاليا على أن “إسرائيل” من وراء الكواليس كانت تلعب دورا أكبر بكثير مما كان ظاهرا، من أجل اختلاق وتضخيم ما يعرف بأزمة معاداة السامية في حزب العمال، وذلك بحسب طلب الحصول على المعلومات المقدم للسلطات الإسرائيلية.
وحدة المهام القذرة
ويبدو أن المصدر الأساسي للمتاعب التي يتعرض لها حزب العمال حاليا، هو وزارة الشؤون الاستراتيجية، التي تم تعيين جلعاد أردان على رأسها منذ 2015.
أشارت تقارير إلى أن نتنياهو شجع هذه الوزارة على إعادة توجيه عملياتها وطاقاتها نحو من يعملون على تقويض شرعية دولة “إسرائيل”، في ظل تزايد الحضور الدولي لحركة المقاطعة BDS، التي تدعو لمقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها وتسليط عقوبات عليها.
وقد تم إنشاء هذه الوزارة في سنة 2006، لتستخدم كوسيلة لإثناء السياسي اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان من تفكيك التحالف الحكومي. حيث استخدم ليبرمان ومن جاؤوا من بعده هذه الوزارة بشكل خاص، كمنصة للتعامل مع المخاوف المتعلقة ببناء إيران للقنبلة النووية، والتهديدات الفلسطينية.
لكن مؤخرا، أشارت تقارير إلى أن نتنياهو شجع هذه الوزارة على إعادة توجيه عملياتها وطاقاتها نحو من يعملون على تقويض شرعية دولة “إسرائيل”، في ظل تزايد الحضور الدولي لحركة المقاطعة BDS، التي تدعو لمقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها وتسليط عقوبات عليها.
وكنتيجة لهذه التوجيهات، انتقلت وزارة الشؤون الاستراتيجية من دورها الثانوي داخل الحكومة، إلى لعب دور البطولة في جهود “إسرائيل” على الصعيد الدولي لمواجهة أعدائها الذين يقوضون صورتها.
وتجدر الإشارة إلى أنه من الصعب جدا تحديد مهام هذه الوزارة على وجه الدقة، في ظل حساسية أنشطتها، فحتى أسماء الكثيرين من موظفيها تعتبر مصنفة تحت بند السرية.
وفي صيف 2016، كانت هذه الوزارة قد نشرت إعلان توظيف حول حاجتها لموظف استخبارات، مهمته الإشراف على وحدة التشويه والمهام القذرة، التي يتمثل دورها بحسب أمير أورين، الخبير في الشؤون الاستخباراتية الإسرائيلية، في تأسيس وشراء وإغراء المنظمات غير الربحية والجماعات غير المرتبطة بـ”إسرائيل”، لاستخدامها في شن حملات تشويه.
يشار إلى أن يوسي ميلمان، المحلل السياسي الإسرائيلي المخضرم، الذي قضى عقودا في تغطية شؤون المخابرات الإسرائيلية، ذكر في ذلك الوقت أن الوزارة كانت تحصل على المساعدة من وحدة خاصة في الاستخبارات العسكرية، من أجل تنفيذ عمليات سرية وقذرة، تتضمن حملات تشويه وإزعاج.
وتحظى هذه الوزارة حاليا بميزانية سنوية تقدر بعشرات ملايين الدولارات، وهنالك أدلة متزايدة على أنها تلعب دورا أساسيا، رغم طابعه السري، في تشكيل نظرة الرأي العام لـ”إسرائيل” في مختلف دول العالم.
تحييد الخصوم بأسلوب مدني
وتعد سيما فانكين جيل، الشخصية رقم 2 في هذه الوزارة بعد جلعاد أردان، وهي ضابطة سابقة في المخابرات العسكرية الإسرائيلية. وكانت سيما قد ذكرت أمام لجنة برلمانية في سنة 2016، أن أغلب مهام وزارة الشؤون الاستراتيجية يجب أن تبقى في طي الكتمان بسبب حساسيتها. وقالت: “لا أستطيع حتى أن أفسر لكم في هذه الجلسة المفتوحة سبب وجود هذه الحساسية”. وأضافت سيما أن مهمة هذه الوزارة تتمثل في بناء “مجتمع من المحاربين”.
ويشار إلى أن يوسي ميلمان، المحلل السياسي الإسرائيلي المخضرم، الذي قضى عقودا في تغطية شؤون المخابرات الإسرائيلية، ذكر في ذلك الوقت أن الوزارة كانت تحصل على المساعدة من وحدة خاصة في الاستخبارات العسكرية، من أجل تنفيذ عمليات سرية وقذرة، تتضمن حملات تشويه وإزعاج.
هذه الأساليب الخفية التي تعتمدها وزارة الشؤون الاستراتيجية، تم التلميح لها قبل سنتين، في إطار مؤتمر في “إسرائيل” ضد حركة المقاطعة. حيث دعا زميل أردان، وهو وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس، إلى القيام بعمليات تصفية مدنية للشخصيات البارزة في حركة مقاطعة “إسرائيل”.
وقد أوضح الوزير أن هذا الهدف يمكن تحقيقه؛ من خلال الاعتماد على المعلومات التي تقدمها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في خارج البلاد.
إذا كانت “إسرائيل” ترى أنه من الضروري الوصول إلى هذا الحد في مواجهتها لنشطاء حركة المقاطعة، فإنه يبدو من المنطقي أن نتساءل حول ما أعدته في إطار جهودها لضرب صورة كوربين
وقد استخدم يسرائيل كاتس عبارات تشير إلى فكرة “الاغتيالات الموجهة”، وهي العبارات التي تصف بها “إسرائيل” عمليات التصفية خارج إطار القضاء التي تستهدف الفلسطينيين. وقد بدا كاتس في خطابه وكأنه يدعو لتنفيذ عمليات سرية قذرة، تهدف إلى تصفية منتقدي “إسرائيل” معنويا وتشويه سمعتهم.
مخطط تهميش المنتقدين
إذا كانت “إسرائيل” ترى أنه من الضروري الوصول إلى هذا الحد في مواجهتها لنشطاء حركة المقاطعة، فإنه يبدو من المنطقي أن نتساءل حول ما أعدته في إطار جهودها لضرب صورة كوربين، الذي يقود أكبر حزب سياسي في أوروبا، وكان على وشك الفوز بالانتخابات البريطانية العامة في العام الماضي.
ومن المعلوم أنه إذا أصبح جيريمي كوربين في النهاية رئيس وزراء بريطانيا، فإنه سيكون أول زعيم أوروبي يضع ضمن أولوياته القضية العادلة للفلسطينيين، على حساب تواصل الاحتلال الإسرائيلي.
وقد ظهرت بعض الإجابات حول هذه التساؤلات، في تقرير أعدته خلال العام الماضي اثنين من أبرز مجموعات الضغط التابعة لـ”إسرائيل”، وهما رابطة مكافحة التشويه، ومعهد ريوت للدراسات في تل أبيب، بالتعاون مع “خبراء” من الحكومة الإسرائيلية، وبدعم من وزارة الشؤون الاستراتيجية. وقد تم تسريب هذا التقرير عبر موقع الانتفاضة الإلكترونية “Electronic Intifada”.
وقد حذر هذا التقرير من أن التضامن مع الفلسطينيين انتشر في صفوف الأحزاب اليسارية في أوروبا، وأن هذا الضرر يمكن محاصرته من خلال دق إسفين بين من ينتقدون “إسرائيل” بشراسة، ومن يوجهون لها انتقادات ناعمة.
سواء كان الأمر بالصدفة أو مخططا له، فإن أغلب ما تضمنه هذا التقرير يعبر حرفيا عن الأساليب التي كان يستعملها اللوبي الإسرائيلي من أجل الترويج لفكرة انتشار معاداة السامية داخل حزب العمال.
كما اقترح التقرير تطوير أساليب عمل شبكة اللوبي الإسرائيلي، وتطوير قدراتها على جمع المعلومات، من أجل استهداف النشطاء المتضامنين مع القضية الفلسطينية، أو من وصفتهم بأنهم “شبكة تقويض شرعية “إسرائيل” “، على أن يتم هذا العمل بشكل سري واحترافي.
وخلص هذا التقرير إلى أن أشد المنتقدين لـ”إسرائيل”، يجب بعد ذلك تهميشهم لدرجة تصبح فيها انتقاداتهم “غير مقبولة اجتماعيا”. وأثنى التقرير أيضا على وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، على دورها في تطوير حرفية ومهارات شبكة دعم “إسرائيل” في الخارج.
كما نقل التقرير تصريحا لفانكين جيل، المديرة العامة لهذه الوزارة، تؤيد فيها ما توصل إليه التقرير وتقول: “أنا سعيدة برؤية أننا نتشاطر وجهة نظر متشابهة فيما يتعلق بالتحديات والاستراتيجيات المناسبة”.
“زرع بذور الانقسام”
سواء كان الأمر بالصدفة أو مخططا له، فإن أغلب ما تضمنه هذا التقرير يعبر حرفيا عن الأساليب التي كان يستعملها اللوبي الإسرائيلي من أجل الترويج لفكرة انتشار معاداة السامية داخل حزب العمال. إذ أن هذه المسألة تسببت فعلا في دق إسفين بين أشد منتقدي “إسرائيل”، مثل كوربين وأنصاره، والبقية البيروقراطية في الحزب.
ويؤكد آسا وينستنلي، الصحفي الاستقصائي الذي أنجز لحساب موقع “الانتفاضة الإلكترونية” تحقيقات معمقة حول الاتهامات الموجهة لحزب العمال بمعاداة السامية، أن جيريمي كوربين ينظر إليه في “إسرائيل” على إنه الزعيم الرمزي لشبكة مناهضة دولتهم.
ويقول آسا: “إن الإسرائيليين يأملون من خلال مهاجمة كوربين، أن يتمكنوا من الإطاحة بمن يرون فيه أقوى شخصية في هذه الشبكة، وذلك من خلال التنكيل به وجعله عبرة لغيره، عبر زرع بذور الانقسام ونشر المخاوف وتكميم حرية التعبير حول “إسرائيل””.
تم تسليط الضوء على التدخلات الكبيرة للحكومة الإسرائيلية في السياسة البريطانية خلال العام الماضي، في تحقيق استقصائي مكون من أربعة أجزاء، أنتجته قناة “الجزيرة” القطرية.
ومن المؤكد أن بصمات “إسرائيل” تبدو حاضرة في الادعاءات الحالية بوجود موجة معاداة للسامية، من المفترض أنها تنطلق من جيريمي كوربين.
وقد تم تسليط الضوء على التدخلات الكبيرة للحكومة الإسرائيلية في السياسة البريطانية خلال العام الماضي، في تحقيق استقصائي مكون من أربعة أجزاء، أنتجته قناة الجزيرة القطرية. وقد تمكن فريق إعداد هذا الفيلم من تصوير أنشطة موظف في السفارة الإسرائيلية في لندن، يدعى شاي ماسوت.
وقد تعرض تحقيق قناة الجزيرة إلى العديد من الشكاوى، بدعوى أنه انتهك القوانين الإعلامية المتعلقة بمعاداة السامية، وأنه ينطوي على انحياز وانتهاك للخصوصية. لكن “أوفكوم”، الهيئة التنظيمية للاتصالات في بريطانيا، برأت هذا التحقيق من كل التهم الموجهة إليه.
وقد تركزت تغطية الإعلام البريطاني لهذا التحقيق حول اللقاءات التي كان يعقدها شاي ماسوت مع نشطاء موالين لـ”إسرائيل” داخل حزب المحافظين. وقد ظهر ماسوت في تصوير سري وهو يخطط للإطاحة بوزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأمريكية، آلان دانكن، الذي كان ينظر إليه في “إسرائيل” على أنه متعاطف مع فلسطين.
لكن التحقيق الاستقصائي في حد ذاته ركز على اللقاءات المتعددة التي عقدها ماسوت مع نشطاء موالين لـ”إسرائيل” في حزب العمال. ومن بين أهداف هذا اللوبي الإسرائيلي، كان إنشاء منظمة تتصدر المشهد، تمثل الفصيل الشبابي لأصدقاء “إسرائيل” في حزب العمال، لتلعب هذه المنظمة دورا مناهضا لكوربين.
شكوى من الانحياز
كما تم تصوير ماسوت وهو يتعاون مع اثنين من أهم مجموعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل” داخل حزب العمال، وهي الحركة العمالية اليهودية JLM، وأصدقاء “إسرائيل” في حزب العمال LFI، ويشار إلى أن هذه المجموعة يوجد ضمن أعضاءها العشرات من نواب الحزب في البرلمان.
وقد لاحظ وينستنلي، الصحفي في موقع “الانتفاضة الإلكترونية”، أن الحركة العمالية اليهودية كانت في السنوات الأخيرة منظمة غير نشطة، إلى أن تم إحياؤها في شباط/ فيراير 2016، بالتزامن مع ظهور مزاعم موجة معاداة للسامية. وأولئك الذين حاولوا التحقيق في أسرار توسع عمليات الحركة العمالية اليهودية بهذه السرعة، يقولون إن مصادر تمويلها غامضة جدا.
وبعد وقت قصير من استعادة هذه المنظمة لنشاطها، تم تعيين مديرة جديدة لها، وهي إيلا روز. وكان الصحفي وينستنلي قد كشف أن روز تم انتدابها بشكل مباشر من سفارة “إسرائيل” في لندن، أين كانت تعمل كموظفة للشؤون العامة.
ورغم أن هذه المنظمة تدعي أنها تعكس تنوع الآراء اليهودية في حزب العمال، فإن ادعاءاتها باتت محل تشكيك منذ ظهور تحقيق قناة الجزيرة. ومنذ ذلك الحين، ظهر تيار جديد يسمى الصوت اليهودي في حزب العمال، بأهداف معلنة تتمثل في إظهار أن الكثيرين من الأعضاء اليهود في الحزب يساندون كوربين.
ويقول وينستنلي إن منظمة الحركة اليهودية في حزب العمال تثير الريبة وتبدو مثل “ذراع للدولة الإسرائيلية”. ويضيف: “إنها ليست حركة طبيعية منبثقة من القواعد، مثلما تريد أن تصور نفسها. وليس من الصدفة أنها كانت الجهة التي تقف وراء الادعاءات بوجود موجة معاداة للسامية في حزب العمال تحت زعامة كوربين”.
يجدر التنويه إلى أننا حاولنا التواصل مع إيلا روز ومنظمة الحركة العمالية اليهودية، للحصول على تعليقات حول هذه الاتهامات، ولكنهما رفضتا التجاوب إلى حين إصدار هذا التقرير
حرب عصابات في لندن
لصالح من كان يعمل ماسوت؟ لعله من غير المفاجئ أن يعمد المسؤولون الإسرائيليون والإعلام الإسرائيلي إلى التقليل من شأنه، وتصويره كلاعب ثانوي في السفارة، ينتهج سياسة شخصية متمردة. وبدا أن وجهة النظر هذه قد لقيت قبولا من طرف الحكومة والإعلام البريطانيين، مما سمح بتلاشي الجدل في هذا الشأن بسرعة بعد إعادة ماسوت إلى “إسرائيل”.
وفي المقابل، توجد أدلة كثيرة على أن تعاون ماسوت مع المنظمات البريطانية الموالية لـ”إسرائيل” ضد كوربين تم بتوجيه من وزارة الشؤون الاستراتيجية في “إسرائيل”.
وفي أيلول/سبتمبر 2016، وبينما كانت الجزيرة بصدد تصوير فيلم وثائقي سري، تحدثت صحيفة هآرتس عن احتدام حرب العصابات في المملكة المتحدة، بين وزارة الخارجية ووزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية، اللتين تم استهدافهما في طلب الحصول على المعلومات.
وفي برقية مسربة أُرسلت إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية، حصلت عليها صحيفة هآرتس، اشتكى كبير الموظفين في السفارة الإسرائيلية في لندن، من أن وزارة الشؤون الإستراتيجية التي يترأسها أردان تسيّر المنظمات اليهودية البريطانية دون علم السفارة.
في الواقع، يتمحور قلق السفارة الواضح حول احتمال خرق مثل هذه العمليات للقانون البريطاني، وتداعياتها الخطيرة على عمل السفارة، حيث جاء في البرقية المسربة أن “بريطانيا ليست الولايات المتحدة الأمريكية”.
ومن جهتها، شرحت صحيفة هآرتس القلق الكامن وراء البرقية المسربة بالقول:” تنبثق المعضلة القانونية المحتملة من حقيقة أن المنظمات اليهودية البريطانية تعرّف نفسها على أنها مؤسسات خيرية. وفي هذه الحالة، هي ممنوعة من الأنشطة ذات الطبيعة السياسية، إلا إذا كانت مرتبطة بشكل مباشر بأهداف المؤسسة الخيرية”.
ووفقا لتقرير صحيفة هآرتس، زار وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، جلعاد أردان، المملكة المتحدة قبل أسبوعين لمحاولة تسوية الخلافات. وقد تعهد مستشارو أردان في المملكة المتحدة “بعدم الإدعاء بأنهم يتبعون السفارة”، على الرغم من أن البرقية ذكرت حادثة وقعت بعد وقت قصير من هذا اللقاء، قام فيها أحد المستشارين بخرق التعهد.
هل كان ماسوت فردا آخر من مجموعة مستشاري أردان في المملكة المتحدة وكان يعمل خارج السفارة؟ لقد كانت عملياته السرية، التي تم توثيقها بالكاميرا، هي بالضبط النوع الذي تشتكي منه سفارته.
أحد الناشطين في حزب العمال، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، قال “إن كوربين يسعى للتصدي للتحالف المؤقت وغير الأخلاقي الذي يقوده نواب يمينيون من كل من حزب العمال وحزب المحافظين، والحكومة الإسرائيلية وجماعات الضغط التابعة لها، وأجهزة الأمن البريطاني ووسائل الإعلام”.
وفي إحدى المراحل أثناء تصوير فيلم الجزيرة الاستقصائي، الذي دام لعدة أسابيع، غير ماسوت موقفه بشكل مثير. حيث أسرّ للمراسل المتخفي أنه لم يعد بإمكانه المشاركة بشكل مباشر في تشكيل الحركة العمالية الشبابية.
كما صرح ماسوت أنه يتوجب عليه البقاء في الخلف، وقد ظهر وهو يغمز للمراسل. ويبدو أن التغيير المفاجئ في لهجته تزامن مع الخلاف بين موظفي السفارة وموظفي وزارة الشؤون الإستراتيجية.
مشاكل حول معاداة السامية
أحد الناشطين في حزب العمال، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، قال في لقاء مع موقع ميدل إيست آي “إن كوربين يسعى للتصدي للتحالف المؤقت وغير الأخلاقي الذي يقوده نواب يمينيون من كل من حزب العمال وحزب المحافظين، والحكومة الإسرائيلية وجماعات الضغط التابعة لها، وأجهزة الأمن البريطاني ووسائل الإعلام”.
وأضاف هذا الناشط في حزب العمال أنه “تم الاتفاق داخل هذا التحالف على اعتبار معاداة السامية أفضل سلاح يمكن استخدامه ضد كوربين، ذلك أنه من المواضيع المحرمة. وشبّه الناشط هذه الوضعية بالرمال المتحركة، إذ كلما قاوم كوربين الإدعاءات كلما تورط أكثر”.
وقد كان هذا الأمر واضحا خلال أشهر من الصراعات داخل حزب العمال، حول ضبط تعريف لمعاداة السامية. وتحت وطأة الضغوطات من طرف منتقدي كوربين، صادق الحزب على مدونة لقواعد السلوك في تموز/يوليو، يستند إلى التعريف المعمول به والمثير للجدل، الذي صاغه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في سنة 2016.
لكن اعتماد التعريف الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لم ينجح في استرضاء المنظمات اليهودية القيادية، على غرار مجلس نواب اليهود البريطانيين والحركة العمالية اليهودية. وقد عارضت هذه المنظمات اعتماد تعريف مماثل، لأن مدونة قواعد السلوك الخاصة بحزب العمال استبعدت أربعة من بين 11 فرضية أو مثالا قد يعد معاداة السامية، وهي الأمثلة المتعلقة بـ”إسرائيل”، وهي صادرة عن التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست.
وقد خشي مسؤولو حزب العمال من أن يؤدي اعتماد جميع الأمثلة إلى تقليص قدرة الحزب على انتقاد “إسرائيل”، وهو أمر يتفق عليه الخبراء. وقد حذر ديفيد فيلدمان، رئيس معهد بيرز لدراسة معاداة السامية في كلية بيربيك التابعة لجامعة لندن، من الخطر الذي سينجر من العبء الذي سيسلطه هذا التعريف على منتقدي “إسرائيل”، خلال سعيهم لإثبات عدم معاداتهم للسامية. ومع ذلك، يبدو أن حزب العمال على وشك اعتماد جميع أمثلة التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، تحت وطأة ضغوطات الجماعات الموالية لـ”إسرائيل”.
خلق تعريف جديد
تبدو بصمات “إسرائيل” واضحة في المساعي الأخيرة لإعادة تعريف معاداة السامية، بطريقة تحول جوهر هذا المفهوم من كراهية اليهود إلى انتقاد “إسرائيل”. ومن شأن هذا التحول أن يؤدي لا محالة لتوريط أي قائد سياسي، على غرار كوربين، يرغب في في التضامن مع الفلسطينيين.
وفي الحقيقة، يعتمد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في حد ذاته على تعريف اقترحته هيئة تابعة للاتحاد الأوروبي في سنة 2004، ألغيت الآن بعد أن كانت تسمى “مركز مراقبة العنصرية وكراهية الأجانب”، ومن ثم تم التخلي عن مقترحها بعد تعرضه لسيل من الانتقادات.
وقد استُمد هذا التعريف من عمل الأكاديميين الإسرائيليين، على غرار دينا بورات، التي كانت جزء من وفد وزارة الخارجية الإسرائيلية في مؤتمر مناهض للعنصرية في جنوب أفريقيا سنة 2011. وفي تلك الفترة، كانت “إسرائيل” تواجه وابلا من الانتقادات بسبب استخدامها القوة المفرطة لإخماد الانتفاضة الفلسطينية.
في هذا السياق، أشار ناثان ثرال، وهو محلل مع مجموعة الأزمات الدولية يقيم بالقدس، إلى أن هدف بورات وغيرها تمثل في خلق “تعريف جديد لمعاداة السامية من شأنه أن يساوي بين انتقاد “إسرائيل” وكراهية اليهود. وقد كان هؤلاء الأكاديميون الإسرائيليون مسؤولين إلى حد كبير عن الطريقة التي صاغ بها مركز مراقبة العنصرية وكراهية الأجانب “التعريف العملي لمعاداة السامية”.
وفي المقابل، أصاب الإحباط “إسرائيل” و جماعات الضغط التابعة لها، بسبب فشل التعريف في نيل القبول الشعبي. لكن هذا الوضع أخذ في التحول سنة 2015. إذ أنه في تلك السنة، أوصى المنتدى العالمي لمكافحة معاداة السامية، وهو مؤتمر أقيم في القدس برعاية وزاة الخارجية الإسرائيلية، بإعادة تقديم التعريف العملي لمعاداة السامية على الساحة الدولية، بهدف منحه الصبغة القانونية.
وفي هذا الإطار، تم تنفيذ هذه المهمة من طرف مارك ويتزمان، أحد كبار مؤيدي اللوبي الإسرائيلي، وهو ينتمي إلى مركز سايمون فيزنتال الواقع في لوس أنجلوس. وبصفته رئيسا للهيئة المعنية بمعاداة السامية وإنكار الهولوكوست، التابعة للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، قام ويتزمان بممارسة الضغوطات لصالح تعريف مركز مراقبة العنصرية وكراهية الأجانب الذي فقد مصداقيته. وقد اعتمد التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست هذا التعريف بشكل رسمي سنة 2016.
وفي كتاب جديد، صدر بعنوان “الشقوق في الجدار”، يشير المحلل بن وايت إلى وثيقة الحكومة الإسرائيلية، التي أقرت بحدوث تغيير شديد الأهمية في التعريف. وقد جاء في الوثيقة ما يلي:” يتمثل التجديد الرئيسي في التعريف العملي في تضمّنه لعبارات معادية للسامية موجهة ضد دولة “إسرائيل”، عندما ينظر إليها على أنها جماعة يهودية”.
“حرب مفتوحة” ضد كوربين
تم استخدام أداة كان الهدف الأصلي منها قمع المناظرات الطلابية حول “إسرائيل”، وحظر أسبوع مناهضة النظام العنصري الإسرائيلي في الحرم الجامعي، ضد زعيم حزب سياسي بريطاني كبير. ووفقا لوينستنلي، إذا ما صادق حزب العمال على التعريف الكامل للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، سوف “تندلع حرب مفتوحة على كوربين ومؤيديه في الحزب”.
علاوة على ذلك، أفاد وينستنلي بأن الاستراتيجية الواردة في تقرير رابطة مكافحة التشهير، ومعهد ريوت، يجري تتبعها عن كثب. وقد حذّر وينستنلي من استخدام استراتيجيات تضليل تم اختبارها مسبقا، بهدف عزل كوربين عن قاعدته الشعبية.
في واقع الأمر، يعتقد الأكاديميون والمحامون الإسرائيليون الذين يسعون للحصول على معلومات حول نشاطات وزارة الشؤون الإستراتيجية ووزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية، أن الوثائق الرسمية قد تساعد على فضح الدور الذي لعبته “إسرائيل” في إثارة المشاكل التي يواجهها كوربين.
من الصعب تقييم دور وزارة الشؤون الاستراتيجية، نظرا لطبيعته السرية. لكن وجود وحدة “المهام القذرة”، يشير إلى وجود استراتيجية لتشويه وعزل أبرز النشطاء المتضامنين مع فلسطين، مثل كوربين.
الجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لعبت دورا محوريا في الجهود الرامية إلى توسيع تعريف معاداة السامية، لكي لا يتضمن فقط كراهية اليهود\ن بل أيضا أي نقد موجه لـ”إسرائيل”. وهو تعريف من الطبيعي أن يعارضه كوربين وأنصاره.
من جهة أخرى، من الصعب تقييم دور وزارة الشؤون الاستراتيجية، نظرا لطبيعته السرية. لكن وجود وحدة “المهام القذرة”، يشير إلى وجود استراتيجية لتشويه وعزل أبرز النشطاء المتضامنين مع فلسطين، مثل كوربين.
بالإضافة إلى ذلك، توجد دلائل تشير إلى أن وزارة الشؤون الاستراتيجية، بالتعاون مع وزارة الشؤون الخارجية، قد جندت عميلا من السفارة الإسرائيلية في لندن، لمساعدة وربما إدارة جماعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل”، من أجل تضخيم مزاعم معاداة السامية في حزب العمال.
وبالنظر إلى سجله الطويل في تصدّر المبادرات المناهضة للعنصرية، التي تؤكد على التضامن مع الجانب الفلسطيني وانتقاد “إسرائيل”، قد يواجه كوربين سلسلة غير لانهاية لها من الفضائح الملفقة، التي قد تواصل الوزارتان وضعها في طريقه.
- جوناثان كوك كاتب صحفي بريطاني في شؤون الشرق الأوسط
المصدر: “ميدل إيست آي” – ترجمة وتحرير “نون بوست”