صارت مسألة مكانة الصين بالمجتمع الدولي من أولويات اهتمام المواطن الصيني وجماعات التفكير والتخطيط.
غزو روسيا لأوكرانيا أعطى أمريكا فرصة للتسريع بتنفيذ خطة تصعيد التوتر في العالم لتهيئة الفرصة لعرقلة صعود روسيا والصين.
في الصين موقع الشخص في رئاسة الدولة أقل أهمية من موقعه في رئاسة الحزب، بعكس أمريكا، حيث يظل موقع رئيس الدولة هو الأهم على الإطلاق.
يؤكد كثيرون أن هناك خشية داخلية على مكانة الصين عالميا وكذا مكانة الرئيس شي شخصياً تحت ضغط مصاعب شتى استجدت وتفاقمت بالسنوات الأخيرة.
من الصعوبات التي واجهها الحكم في الصين مؤخرا تحديات تعمدت أمريكا تصعيدها بهدف إنهاك الصين وتعطيل مسيرتها الصاعدة نحو مراتب القمة الدولية.
أخطأت الصين حين اعتمدت في انطلاقتها الكبرى نحو تعظيم قوتها الاقتصادية ورفع معدل النمو، على الاستثمارات فأهملت الاستهلاك مما فاقم اللامساواة الاجتماعية.
اعتقدت الصين أن الدعاية المكثفة كفيلة بصنع قوة ناعمة للصين لكن القوة الناعمة لها مخصصات إن لم تتوفر فلا قيام لقوة ناعمة، وهي مخصصات غير متوفرة بالصين.
* * *
بقلم: جميل مطر
منعقد حالياً في بكين المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني وسط اهتمام كبير. ولهذا الاهتمام ما يبرره. لم أحضر، للأسف، أياً من المؤتمرات السابقة رغم أن حضور مؤتمرات الأحزاب كان من هواياتي المفضلة، ويعود الفضل في تنميتها إلى الفترات التي قضيتها في مؤتمرات أحزاب من أنواع شتى، في إيطاليا وتشيلي والأرجنتين، لفهم أولويات السياسة الداخلية في الدولة صاحبة الشأن.
المبررات التي قدمها، أو قرأتها لصحفيين ودبلوماسيين أحترم آراءهم في الصين وفي الحزب وفي طبائع النخبة السياسية الصينية، كثيرة ومتنوعة، أهمها من وجهة نظر الأغلبية العظمى، المبرر المتعلق بـ«شي» رئيس الدولة ورئيس الحزب من موقعه كرئيس اللجنة المركزية للحزب، علماً بأنه في الصين موقع الشخص في رئاسة الدولة أقل أهمية من موقعه في رئاسة الحزب، بينما العكس في أمريكا، حيث يظل موقع رئيس الدولة هو الأهم على الإطلاق.
ومعروف أنه في هذا المؤتمر العشرين سوف يناقش أعضاء المؤتمر وعددهم نحو 2300 نائب ترشيح الرئيس شي رئيساً للجنة المركزية، أي رئيساً للدولة لمدة ثالثة.
يبدو الأمر سهلاً للكثيرين خارج الصين. نواب مختارون بعناية من جانب أعضاء مخضرمين في الحزب، ومؤهلون بحكم تجاربهم لتولي مسؤولية مناقشة قضايا حيوية وموثوق بولائهم بحكم مواقعهم في مراكز المسؤولية البيروقراطية على مستوى الجمهورية، ومستوى الإقليم، ومستوى القرية.
هؤلاء يمثلون، بالفعل، القاعدة الشعبية التي يعتمد عليها قادة الحزب، وعلى رأسهم الرئيس شي. مع ذلك تبدو الأمور للمتحقق والمدقق في شؤون الصين على نحو آخر، تبدو، أو هي في حقيقة الأمر، ليست سهلة، ولا مأمونة تماماً لاعتبارات أهمها، من وجهة نظري:
* أولاً: أتحسّس شخصياً بوادر ظاهرة ليست جديدة على الذهنية السياسية الصينية، ولكنها لم تكن يوماً بذات الدرجة من الحدة، ألا وهي الأهمية المعطاة لما أسميه سباق المكانة. نقل لي بعض من زاروا الصين مؤخراً والتقوا عشرات الباحثين وصناع الرأي، حقيقة أن مسألة مكانة الصين في المجتمع الدولي صارت بين أولويات اهتمام المواطن الصيني، وجماعات التفكير والتخطيط. هؤلاء، أو أغلبهم توخياً لدقة النقل وأمانته، يؤكدون أن هناك خشية على مكانة الصين في العالم، وبالتالي مكانة الرئيس شي شخصياً، تحت ضغط مصاعب شتى استجدت، أو تفاقمت في السنوات الأخيرة، يأتي في صدارتها:
1. مسألة التعقيدات التي خلفتها سياسة عُرفت بـ«حملة كوفيد الصفرية». وهي السياسة التي فرضها إغلاق المدن لفترات طويلة، ولم تحقق النصر الحاسم على هذا الوباء. ويتصور كثير من المواطنين الصينيين أنهم يدفعون ثمناً باهظاً في الحرب ضد فيروس هذا الوباء. ويذهب بعيداً أحد المراقبين للسلوك الصيني في قضايا السياسة الخارجية إذ يعتقد أنه ربما تسربت إلى العقل الرسمي أن الصين قد تكون على الطريق الذي انتهت به إمبراطوريتا النمسا والمجر بعد الحرب العالمية الأولى، عندما ضربتها الموجة الثالثة من موجات وباء الإنفلونزا الذي أطاح ملايين البشر.
2. من نتائج وباء كوفيد، وبالتحديد بسبب سياسة الإغلاق، أو ما عرف بكوفيد الصفرية، تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في الصين.
* ثانياً: من الصعوبات أيضاً التي واجهها الحكم في الصين في الآونة الأخيرة، التحديات التي تعمدت الولايات المتحدة تصعيدها بهدف إنهاك الصين، وتعطيل مسيرتها الصاعدة نحو مراتب القمة الدولية.
من هذه التحديات زيادة التعقيدات حول موضوع تايوان، هذه المقاطعة الصينية التي بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، والثورة الصينية، وتمرد الكومنتانغ، خضعت لنفوذ الولايات المتحدة. ومن الصعوبات أيضا غزو روسيا لأوكرانيا، الغزو الذي أعطى الولايات المتحدة فرصة للتسريع بتنفيذ خطة تصعيد التوتر في العالم لتهيئة الفرصة لعرقلة صعود روسيا والصين.
* ثالثاً: تنبهت الصين مؤخراً، إلى أنها أخطأت حين اعتمدت في تنفيذ انطلاقتها الكبرى نحو تعظيم قوتها الاقتصادية ورفع معدل النمو، على الاستثمارات إلى حد أنها أهملت جانب الاستهلاك. وكنا شهوداً، في الآونة الأخيرة، على فشل هذا النموذج بسبب كلفته الباهظة، بخاصة في قطاع اللامساواة الاجتماعي.
* رابعاً: أكد الخبراء المراقبون للنمو الاقتصادي للصين ومكانتها الخارجية، أن تراجع شعبية الصين في الخارج، وإن تبدو الآن بسيطة في جوهرها، تعود إلى فرضية نظرية اعتمدتها الصين وهي الاعتقاد بأن الدعاية المكثفة كفيلة وحدها بصنع قوة ناعمة للصين. ونعرف أن للقوة الناعمة مخصصات إن لم تتوفر فلا قيام لقوة ناعمة، هذه المخصصات غير متوفرة في الصين.
* خامساً: يحسب لمصلحة استحقاق الرئيس شي، لولاية ثالثة، أن الحزب الشيوعي الصيني كاد يفتقر إلى (الخالدين). والخالدون في عرف وفلسفة الأحزاب السلطوية عموماً، هم المخضرمون في أجهزة قيادة الحزب، وفروعه في المقاطعات.
هؤلاء يملكون عادة مفاتيح قرار التجديد للرئيس، أو رفض ترشيحه بداية. ومن حسن حظ الرئيس شي تضاؤل عدد هؤلاء في مواقع القيادة التي سوف تتولي تنفيذ عملية التجديد.
وعلى كل حال فإن مجرد ترشيحه الذي يتم عادة من خلال فروع الحزب في الريف والأقاليم وبين الأقليات، يدل على أن له شعبية واسعة داخل الحزب.
* سادساً: تغيرت مكانة القوى الداخلية المؤثرة في مسيرة الحزب الشيوعي الصيني. ففي وقت من الأوقات كانت القوى صانعة القرار في الحزب هي الجيش والبيروقراطية. واليوم هي الصناعيون ورجال الأعمال من ناحية، والبيروقراطية من ناحية أخرى، وفئة الأكاديميين، أو المثقفون عموماً، من ناحية ثالثة.
هنا في عهد الزعيم ماو، كان يتعين على قيادة الحزب أن تجري، بين الحين والآخر، ثورة تتحارب فيها القوى الثلاث وتقوم خلالها القيادة بالتخلص من الأفراد الفاسدين والمتطرفين، ومن خصومها.
* سابعاً: يشعر النواب أعضاء المؤتمر بأنهم في حضرة رئيس يستعد لإعلان استحقاقه مكانة الزعيم، وليس رئيس الحزب فقط، أو حتى رئيس الدولة. وأعتقد في الوقت نفسه، أن الرئيس شي أعد من الأفكار والمبادرات ما ينوي طرحه على المؤتمر يبرر فيه ويشرح أحقيّته بمكانة كمكانة الرئيس ماو في تاريخ الصين الحديث.
.. ولا يزال المؤتمر في بدايته.
*جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: