“العقائد السياسية” تحتقر طوباوية الأيديولوجيات وكونيّتها وتختصر الكوكب كله في “دولةٍ كبرى ما”.
ما يمثله دوغين يعيد إلى الحياة قصصا أسطورية عن تأثير مفكّر أو فيلسوف في تاريخ مملكة أو إمبرطورية عبر صلته بصاحب السلطة.
في ردّه على خطر تمزّق “الجغرافيا المقدّسة”، اختار دوغين أن يكون العقل المدبر لقرار احتلال القرم، وهو من صكّ تعبير: “روسيا الجديدة” الذي يستخدمه بوتين.
يتقدم دوغين ليحتل مكانا شغله ماركس ولينين بالحقبة الشيوعية تحرّكه قناعة بأن النزوع الانفصالي الذي أطلق عليه اسم “الربيع الروسي” أيقظ “الروح الروسية”.
اليوم تحتضن تربة روسيا بحماس أفكار دوغين، وهو حماسٌ يرجّح البعض أنه أحد أهم أسباب قرار غزو أوكرانيا والأطرف أنه برّر الفكرة بـ”إنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”!
* * *
بقلم: ممدوح الشيخ
ألكسندر دوغين باحث سياسي اشتهر بأوصاف مثل: “راسبوتين بوتين”، و”عقل بوتين”، “أخطر فيلسوف في العالم”، وجميعها وردت في عبارة واحدة في تقرير لموقع بي بي سي، لتلخص ظاهرة كان يبدو أن العالم قد ودّعها إلى غير عودة مع زوال الاتحاد السوفييتي.
فما يمثله الرجل الذي أودى تفجيرٌ، كان يستهدفه، بحياة ابنته، يعيد إلى الحياة القصص الأسطورية عن تأثير مفكّر أو فيلسوف في تاريخ مملكة أو إمبرطورية عبر صلته بصاحب السلطة.
وخلال العصر الحديث، كان التطور الكبير في بنية “الدولة” وبيروقراطيتها، والتضخم الكبير لتاثير “الأداتية” في عمل البيروقراطيات الحداثية الرشيدة، يوحي بأن ماركس ربما كان الأخير في طابور أمثاله.
وروسيا المهلهلة المتخلفة في نهايات القرن التاسع عشر كانت مرشّحة بقوة لأن تكون أرضًا خصبة لأن تحتضن الماركسية، وأن تظلّ نخبتها سبعين عامًا تصرخ من دون جدوى: “يا عمال العالم اتّحدوا”.
ما الذي تعنيه “ظاهرة دوغين”؟ .. إحدى الأفكار التي أحسب أنها مفتاحية في الإجابة عن السؤال كتاب انتهيت من ترجمته، يصدُر بالعربية قريبًا، ويؤرّخ للاتحاد السوفياتي، وهو بالتالي يؤرّخ، ضمن هذا السياق، للدولة والحزب الشيوعي والمجتمع والنخبة.
والدرس الرئيس في الكتاب يلخصه عنوانه الفرعي: “فضاء المقدّس لا يعرف الفراغ”. وما لا يعرف الفراغ في عالم الأفراد والشعوب، أحد أهم ينابيع الأفكار السياسية الكبرى في العصر الحديث، وجميعها لم تغفل أنها تتأسّس، صراحة أو ضمنًا، على مفهوم لـ “الطبيعة البشرية”.
واليوم تحتضن التربة الروسية، بالحماس نفسه، أفكار ألكسندر دوغين، وهو حماسٌ يرجّح كثيرون أنه أحد أهم أسباب قرار غزو أوكرانيا، والأكثر طرافة أن دوغين برّر الفكرة بـ “إنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”!
وبعد قرنين ونيف من التحرّك داخل عالم “أيديولوجيات الرؤى الشاملة” من الليبرالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية (مرورًا بالماركسية والفاشية والفيمنزم)، يضيق أفق التفكير والتنظير والتعبير، ليدخل العالم، أو على الأقل روسيا، مرحلة “العقائد السياسية”، بخيال فقير ولغة كئيبة وأفكار تدعو إلى احتقار العالم بدل التبشير ببناء الجنة فيه.
و”العقائد السياسية” تحتقر طوباوية الأيديولوجيات وكونيّتها وتختصر الكوكب كله في “دولةٍ كبرى ما”.
فعلى مذبح “المجال الحيوي”، قدّم أدولف هتلر القارّة بأكملها ضحية في طقسٍ عبثي انتهى بانتحاره شخصيًا. وعلى مذبح “صربيا الكبرى” سفك الصربيون المهووسون دماء مئات الآلاف دون طائل.
وفي حالة روسيا، فإن دوغين، الذي يتقدّم بقوة ليحتل المكان الذي شغله كارل ماركس خلال الحقبة الشيوعية، تحرّكه قناعة بأن “الروح الروسية” أيقظها النزوع الانفصالي الذي أطلق عليه اسم “الربيع الروسي”.
وهو في ردّه على خطر تمزّق “الجغرافيا المقدّسة”، اختار أن يكون العقل المدبر لقرار احتلال القرم، وهو من صكّ تعبير: “روسيا الجديدة” الذي يستخدمه بوتين.
وعليه، فإن مسيرة هذه الجغرافيا توّجت مسارها بإشعال الحريق الأوكراني الذي لا يعلم إلا الله أين تنتهي حرائقه!
والأيديولوجيات، رغم بؤس حصاد كثير منها، كانت تدّعي قدرتها على ملء “ما لا يعرف الفراغ” في عالم الإنسان. أما “العقائد السياسية” فلا تعبأ بالنوع البشري، بل بالعِرق الذي تتمحور حول قداسته، ولا تعبأ بالكوكب، بل بجغرافية الفكرة.
وهي بالتالي لا تطمح إلى أن يعتنق أحد مقولاتها، بل أن يذعن الجميع لما تترتب عليه. ولذا لا تسعى “العقائد السياسية” إلى أن تملك من كفاءة مخاطبة العالم، بل أن تملك عصا غليظةً تلوّح بها في وجه العالم.
والمصير المأساوي الذي آل إليه الاتحاد السوفياتي بعد 70 عامًا من تقديس الماركسية يؤكّد حاجة أية بيروقراطية إلى “تصوّر ما” يتجاوز خطاب المصالح المباشر، ويتجاوز منطق الدوران في فلك قوة عظمى هربًا من عبء اختيار ما تملأ به “ما لا يعرف الفراغ”.
وعندما لا تملأ الأمم هذا الفراغ بإجاباتٍ تتصف بالرشد، يتقدّم دوغين وأمثاله ليملأوا الفراغ. وإذا كان مصير الشيوعية درسًا بليغًا، فإن مصير العالم في حال اتسعت دائرة انتشار هذه العقائد قد يكون أشدّ سوداوية.
* ممدوح الشيخ كاتب وباحث مصري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: