لا تزال حرب أوكرانيا مرشّحة للإسهام في تغيير معادلات السياسة الدولية.
انتقلت ألمانيا من مربّع التعامل الواقعي مع أزمة أوكرانيا إلى مربّع قيادة تغيير، بدايته ستكون داخل البيت الأوروبي.
“لن يكون من الممكن دائما اتخاذ قرار بالإجماع في كل شيء، بل يجب أن يتخذ الاتحاد قراره بالإجماع اليوم على عدم إمكانية الاستمرار في ذلك”.
أهمية الخطاب الجديد للمستشار الألماني متعدّدة الأوجه، فهو تقارب هو الأول من نوعه من الخطاب الأميركي في شأن أهمية الديمقراطية عالميًا لمصالح الغرب.
افتراقٌ ألماني عن الموقف الفرنسي ستكون له تأثيراته في علاقة الاتحاد الأوروبي بالأنظمة الاستبدادية، وقدرتها على المناورة بمواجهة ضغوط دولية في ملف الحريات والديمقراطية.
* * *
في تطوّر قد يكون منعطفًا تاريخيًا، انتقلت ألمانيا من مربّع التعامل الواقعي مع الأزمة الأوكرانية إلى مربّع قيادة تغيير بدايته ستكون داخل البيت الأوروبي، وقد تمتد آثاره إلى ما هو أبعد.
ففي مقابلة تلفزيونية أجرتها وكالة الأنباء الألمانية، دعا المستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى إصلاحات في الاتحاد الأوروبي، لتسهيل قبول الأعضاء الجدد.
وقال شولتز إنه للقيام بذلك “لن يكون من الممكن دائما اتخاذ قرار بالإجماع في كل شيء، بل يجب أن يتخذ الاتحاد قراره بالإجماع اليوم على عدم إمكانية الاستمرار في ذلك”.
والانتقال من الإجماع إلى الأغلبية قد يعني تخلص الاتحاد نهائيًا من “فخّ الفيتو” الذي يجعل اتخاذ القرار في بعض القضايا رهينة ابتزاز بعض الدول أو تصلبها بسبب مصالح وطنية ضيقة الأفق، تجعل الاتحاد “بطّة عرجاء”.
ومن يقرأ شهادة الجنرال ويسلي. ك. كلارك، في كتاب “شنّ الحرب الحديثة”، على خلفيات الضربة الأطلسية لنظام الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوسيفيتش، نهاية تسعينات القرن الماضي، يمكنه فهم أهمية ما يقترحه المستشار الألماني بشكل أدق.
فبسبب المرونة التي يتسم بها اتخاذ القرار في قيادة حلف شمال الأطلسي، كان الحلف قادرًا، بتوافق قادته أميركا وبريطانيا، على أخذ زمام المبادرة في أزمةٍ تحدُث داخل أوروبا.
والجنرال كلارك كان القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا بين 1997 و2000، وروى في كتابه كيف كان الأوروبيون، بسبب آليات اتخاذ القرار الجماعي الأوروبي، يتعثّرون في مواءمات عقيمة بينما نيران الحرب الأهلية تحرق البلقان!
أعلن المستشار الألماني أنه سيدعو، في قمة الاتحاد الأوروبي لمواجهة مشكلة التصويت بالإجماع، وكانت هناك مناقشات أوروبية بشأن ضرورة تقليص نطاق تطبيق المبدأ فترة طويلة.
وفي تحول مهم سيطرأ على دور ألمانيا العالمي، أعلن شولتز أنه يعتزم إدراج موضوع تعزيز التعاون بين الديمقراطيات في العالم ضمن جدول أعمال قمة مجموعة السبع التي ستعقد في ولاية بافاريا في شهر يونيو/ حزيران الجاري.
وقال شولتز إنه “سيكون نجاحا خاصّا إذا كانت القمّة يمكن أن تكون نقطة البداية لإلقاء نظرة جديدة على عالم الديمقراطية”، و”الديمقراطيات الكبيرة والقوية في المستقبل موجودة في آسيا وأفريقيا وجنوب أميركا وستكون من شركائنا، وعلينا أن ننظر إلى العالم بأسره لا أن تكون نظرتنا قاصرة على أوروبا وأميركا الشمالية واليابان فقط”.
وأهمية الخطاب الجديد للمستشار الألماني متعدّدة الأوجه، وأولها أنه تقارب، هو الأول من نوعه من الخطاب الأميركي في شأن أهمية الديمقراطية عالميًا لمصالح الغرب.
وانفراد ألمانيا بالإعلان عن التوجه الجديد خارج إطار التنسيق الفرنسي/ الألماني الذي طالما رسم الملامح الرئيسة للسياسات الأوروبية يعكس إدراك ألمانيا لحقيقة أن فرنسا لم تزل حتى اليوم “راعيًا رئيسًا” لعدد من أكثر الأنطمة استبدادًا في إفريقيا والعالم العربي، وهذا افتراقٌ مهم ستكون له تأثيراته الواضحة في علاقة الاتحاد الأوروبي بالأنظمة الاستبدادية، وقدرتها على المناورة في مواجهة أية ضغوط دولية في ملف الحريات والديمقراطية.
وتدرك ألمانيا، وهي تتخذ هذه الخطوة التاريخية، أنها بذلك تقترب بشكل ملموس من أن تتحوّل من السعي إلى الموازنة بين علاقتها بروسيا وعلاقتها بأميركا لتصبح قاب قوسين أو أدنى من الاصطفاف في مواجهة روسيا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
ولقد كانت منذ الوحدة الألمانية (أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، وقد جرت هذه الوحدة، بعد أن قدّمت ألمانيا الغربية (آنذاك) تعهدًا لروسيا بشأن العلاقات الثنائية، وكان هذا التعهد أحد المكاسب الكبيرة لروسيا، لكنها على الأرجح خسرته بسبب استمرار حربها على أوكرانيا.
وفي ظل تقاليد حكمت السياسة الألمانية خلال حكم غيرهارد شرودر وأنغيلا ميركل، كانت ألمانيا تلعب الدور الأكبر في حماية “أوروبا الأوروبية” من أن تتطابق رؤيتها مع الرؤية الأميركية للعلاقات الدولية.
وبهذه التصريحات غير المسبوقة، تكون صفحة قد طويت، وبها أيضًا يرجّح أن تطوى، ولو جزئيًا، صفحة استثناء الجنوب/ الشرق من الحديث عن الديمقراطية، وسيشكل هذا مأزقًا حقيقيًا لعدد من الأنظمة العربية.
وإقرار مثل هذا التوجه في قمة الدول الصناعية السبع سيجعل أنظمة بعينها في مواجهة وضع جديد قدرتها على المناورة في ظله محدودة.
.. ولا تزال حرب أوكرانيا مرشّحة للإسهام في تغيير معادلات السياسة الدولية.
* ممدوح الشيخ كاتب وباحث مصري
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: