واقعة القنصلية السعودية وخريطة العلاقات الإقليمية
يعتمد تطوير علاقات إقليمية على تسيير تركيا والسعودية التعامل مع الأزمة دون تدخل أطراف أخرى.
بقلم: خيري عمر
تثير جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول النقاش بشأن مستقبل العلاقات السياسية في الشرق الأوسط، فقد شهد الكثير من الجدل في ما يتعلق بتداعياتها الثنائية بين تركيا والسعودية، فبجانب تداعيات واقعة الاغتيال، تبدو أهمية تناول الآثار المحتملة على العلاقات الإقليمية ودور البلدان المركزية الشرق أوسطية في رسم خريطة جديدة للعلاقات الإقليمية.
بين الاحتواء والتدويل
ورغم محاولات السعودية احتواء آثار الحادثة، أدى انتشار الحملات الإعلامية إلى زيادة الاهتمام الدولي لمطالبة الحكومة السعودية بالإفصاح عن المتورّطين فيها، ما دفعها إلى الاعتراف بوقوع الجريمة داخل القنصلية، وهو ما ينقلها إلى قضية جنائية، سوف تستغرق حالة تنازع القوانين، وقتاً بسبب الاختلاف في التمسّك بالحصانات والسيادة الإقليمية.
ويعد تركيز التعامل التركي على تجنب تسييس الحادثة عاملاً مهماً في السيطرة على تداعيات الحادثة، ومنعها من الانفلات إلى أزمة سياسية، واحتواء مسارها بشكلٍ ما زال يقلل من فرص التدخل الدولي المباشر.
وقد ساهم هذا النمط من الإدارة الهادئة في تحفيز السعودية على الاستجابة لبعض المطالب التركية، مثل تفتيش المقار الدبلوماسية وتوجيه الاتهام لفريق الاغتيال، ويكمن النظر إلى الاستجابات المتبادلة لوجود رغبةٍ مشتركةٍ لإبقاء التداعيات في النطاق القانوني، وإبعاده عن القضايا السياسية.
يتضح ذلك في الخطابات الرسمية للوزراء والمسؤولين في البلدين، كما كان خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مستقرّاً عند تحديد ملامح حدوث الجريمة ووجوب التحقيق، ولم يكن إعلاناً سياسياً، وهو ما ساهم في تحديد أمرين مهمين؛ إتاحة الفرصة لاستكمال الجوانب القضائية، ما يعطي الحكومة السعودية فرصةً في إعادة تقييم موقفها، والتأكيد على أهمية استقرار العلاقات الثنائية، بغض النظر عن نتائج التحقيق ونوعية المتهمين.
قد توفر سياسات تركيا والسعودية فرصة للاستفادة من وقوع السياسة الأميركية في حالة رد الفعل على تطورات أحداث القنصلية، وتصاعد الدخول القوي لروسيا في الأزمات الإقليمية، فالولوج الروسي إلى الشرق الأوسط يفتح الاحتمالات أمام إعادة هيكلة السياسية الدولية في المنطقة، بشكل يدعم تحرر العلاقات الإقليمية.
ويظل التعامل التركي والسعودي في عدم تدويل الحادثة عاملاً يساهم في تشكيل كتلة إقليمية قادرة على احتواء التوتر الإقليمي، وخفض تأثير التدخل الخارجي، فيمكن قراءة المواقف الغربية على أنها محاولة للتدخل طرفا رئيسيا بطريقةٍ تمكّن الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، من إدارة ملف الحادثة. وبالنظر إلى تجارب التدخل الغربي، يتضح أن دورهم لم يساعد على احتواء المشكلات، وساهم في إثارة نزاعاتٍ فرعيةٍ أخرى.
ويبدو من التعامل الدولي أنه يعمل على إعاقة بناء نموذج لتكوين إطار إقليمي، هو ما يتعلق بسعي عدد من الأطراف الدولية إلى استغلال حادث القنصلية للدخول طرفا مباشرا، وإدامة علاقات الهيمنة ومنع القوى الإقليمية من الاضطلاع بدور يكافئ قدراتها، لكي تظل العلاقات قائمةً على التبعية؛ المركز والهامش.
وبجانب أن تباطؤ العربية السعودية في التعامل مع تداعيات الحادثة يساعد على تمكين الغرب من نشر سياساته التدخلية بصورة أكثر فاعليةً، فإنه أيضاً يطيح احتمالية قدرة بلدان الشرق الأوسط على تصحيح العلاقات الثنائية، أو تجاوز الأزمات الداخلية.
وللوقت الراهن، وبغض النظر عن استجابة السعودية لإجراء تعديلاتٍ داخليةٍ في هيكل السلطة، يبدو حرص البلدين على تحسين العلاقات السياسية، أو تجنب حدوث أزمةٍ على أقل تقدير، حيث وجود إدراك لدى صانعي القرار لتجنب حدوث انهيار إقليمي، أو تدهور في العلاقات الثنائية، وهو ما يمكن اعتباره الشرط الضروري للاستقرار وخفض النفوذ الدولي.
وتكمن أهمية هذا التوجه في أنه يتيح فرصةً للدول المركزية في الشرق الأوسط للتلاقي حول المصالح الاستراتيجية، وتطوير سياسات الاستثمار وتهدئة التوتر السياسي.
وبالتالي، يمكن الاقتراب من تحديد الفواعل الإقليميين، فبالإضافة إلى العربية السعودية، تساهم تركيا ومصر وإيران وإثيوبيا في تشكيل جانب كبير من سياسات الشرق الأوسط والبحر الأحمر، وبالتالي، فإن البحث عن سياسات مشتركة لمعالجة الأزمات الإقليمية، يتوقف على طبيعة الفرص التي توفرها النظم السياسية.
التطور السياسي للبلدان
شهدت المنطقة، في سبعينيات القرن الماضي، تطوراتٍ مماثلة، حيث ظهر ما يعرف بهلال الثورات، وكان له أثر في تغيير السياسات الإقليمية على مدى الفترة اللاحقة. وقد دارت التغيرات السياسية حول محورين:
– الأول، حيث شكل النظام الدولي والمتمثل بالتفاعل بين استراتيجية تمدّد الاتحاد السوفييتي، وسياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لاحتوائه.
– الثاني، يتعلق بتغير الديناميكيات الإقليمية، حيث اندلعت ثورات إثيوبيا (1974)، اليمن الجنوبي (1977)، وإيران (1979)، واندلاع الصراع في أفغانستان في العام نفسه، وهي أحداثٌ كان لها تأثيرٌ على العلاقات الإقليمية والدولية.
وقد ترتب على هذه التغيرات دخول الشرق الأوسط في موجاتٍ من الأزمات السياسية، بدأت بحرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وتنامي الانقسامات العربية، بسبب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، كما انتهت حرب أفغانستان بتنامي الحركات الجهادية.
يشهد الوضع الحالي تطوراتٍ مماثلة، حيث يوجد مشروع التسوية النهائية للقضية الفلسطينية (صفقة القرن)، وهو ما يشكل واحداً من مصادر الخلاف الإقليمي، كما يمر بعض البلدان بعمليات تحول عميقة، تختلف عن سابقتها في أنها تميل نحو الانتقال السلمي، وتصحيح دور المؤسّسات، حيث تتقارب ثلاثة بلدان في بناء نظم حكم تقوم على الهوية الوطنية، لكنها تواجه تحدّي التهميش الإقليمي، بسبب التدخل الخارجي.
وعلى مستوى بنية النظم السياسية، بدأت تركيا مشوارها نحو إعادة تجديد الجمهورية، وأنجزت الأهداف المهمة للتحول إلى النظام الرئاسي وتكوين مؤسساته. وتبدو إثيوبيا ماضية في الاتجاه نحو تجديد النظام السياسي، وتعمل على إعادة تقييم “الفيدرالية الإثنية”، وتوسيع الدور السياسي للجماعات السكانية. كما تمر مصر بمرحلة إعادة الهيكلة الاقتصادية، واجتازت الشوط الأخير في الخروج من النزاع على السلطة، فيما تقف إيران على نهاية مرحلةٍ في تطورها السياسي.
وباستثناء فكرة ولاية الفقيه في إيران، ومفهوم تصدير النموذج الثوري، تتقارب القيم السياسية في البلدان الأخرى، فهي تستند لأفكار تقليدية عن الديمقراطية وسلطات الدولة، كما مصر أو تركيا أو إثيوبيا لا تسعى إلى ترويج أيديولوجيا سياسية بقدر سعيها إلى بناء حيزها السياسي، وترتيب مصالحها الاقتصادية.
اتجاهات العلاقات الإقليمية
تساهم هذه التغيرات في رسم صورة متقاربة للسياسة الخارجية في البلدان الثلاثة، فالتوجه العام لبلدان؛ تركيا ومصر وإثيوبيا، يقوم على تطوير التعاون في قضايا التنمية الإنسانية والأمن والتجارة والاستثمار ومكافحة الإرهاب.
وفي ما يخص السياسة التركية، فإنها وضعت سياستها الخارجية على أساس احترام السلامة الإقليمية لدول الجوار؛ العراق وسورية والحل السياسي، وذلك عبر توثيق العلاقة مع الحكومة العراقية المركزية، والاتجاه إلى بناء حل سياسي للأزمة في سورية، بدعم مفاوضات أستانة، ومنع الحرب على إدلب لتجنيب المدنيين كارثةً إنسانية، كان الاهتمام بالعلاقات الثقافية والاقتصادية مع شمال أفريقيا والخليج العربي. وهنا، يمكن ملاحظة أن صياغة السياسة التركية تقوم على أن تطور العلاقات الدبلوماسية يتطلب زيادة فرص التعاون، وبناء الثقة، عنصرا أساسيا لضمان الاستقرار الإقليمي.
وتبدو سياسة مصر الخارجية في الاتجاه نحو توطيد نطاق مصالحها الحيوية والأمنية، حيث يعمل الاتجاه العام على إيجاد أشكال مختلفة للتعاون الإقليمي والاستثمار. يتضح ذلك في بناء نسق تفاوضي للتعامل مع تداعيات سد النهضة، كما تتجه إلى أن تكون مركزاً إقليميا لتجارة الغاز، والحفاظ على علاقات إيجابية مع عدد من بلدان الخليج، ودعم العلاقات الاستراتيجية مع السودان ورفض التدخل في اليمن.
كما تشكل التحولات في السياسة الإثيوبية فرصة لمنطقة القرن الأفريقي والخليج العربي وحوض النيل في بناء السلام والخروج من مشكلات الحروب الأهلية. وعلى الرغم من التحديات الداخلية، تسير الحكومة نحو تغيير مسارات السياسة الإثيوبية، بحيث تتحوّل من الهيمنة إلى التعاون الإقليمي، وتبني الاقتصاد المفتوح. ويمكن القول إن إدماج إثيوبيا ضمن المصالح المشتركة لبلدان المنطقة يساعد في مراكمة الموارد الطبيعية والبشرية، كما يضعف أفكار الاستقطاب التقليدية.
على خلاف تلك السياسات، تبدو السياسة الإيرانية أكثر تدخليةً بشكل يعزّز الوعي المذهبي والانقسامات العرقية. وهنا، تظهر المشكلات المرتبطة بالسياسات الطائفية والمذهبية، وهي عادة ما ترافقها انقساماتٌ داخلية في كل دولة، لا سيما في بلدان الخليج العربي والشام والعراق، ولعل الصراع الراهن في سورية واليمن يمثل مرحلةً متطورة من السياسات المذهبية. ويمكن القول إن دخول إيران المنطقة العربية، قد يحقق مصالح في المدى المتوسط، لكنه على المدى الطويل سوف يهدر مصالح استراتيجية كثيرة.
يمكن أن يشكل الاتجاه العام للسياسات الخارجية لهذه البلدان أرضيةً للبحث عن حلولٍ لاختلاف المصالح، كما يعمل على ضبط الصراعات الإقليمية، لكن الوصول إليها يتوقف على اضطلاع الحواضر التقليدية؛ إسطنبول، القاهرة، الرياض، وأديس أبابا، ببناء استراتيجيةٍ للتعاون الإقليمي وملء الفراغ الناتج عن مرحلة ما بعد حرب الخليج الأولى في 1989.
وهذا يمكن استكماله بإدماج بغداد ودمشق في إعادة هيكلة العلاقات الإقليمية، فالأزمات الراهنة يمكن اعتبارها انعكاسا لتراجع دور هذه العواصم على مدى العقود الماضية، وهو ما ترتب عليه ظهور الانقسامات إلى محاور الاعتدال والممانعة بصورةٍ كانت أكثر إرباكاً للعلاقات الثنائية، وحتى متعدّدة الأطراف، ما ساهم في تآكل المصالح السياسية والاقتصادية، وظهور فوضى في العلاقات الإقليمية، وانتشار الأزمات المفتوحة.
قد يكون الحل الملائم متمثلاً في تنمية فكرة تجميع مصالح بلدان الشرق الأوسط عبر تحويل الصراعات الأهلية والخروج من دائرة العلاقات المتوترة.
وهنا يمكن النظر إلى مفاوضات أستانة، ونزع فتيل الحرب في إدلب ونشر السلام في القرن الأفريقي والقدرة على منع انفلات حادث القنصلية، مؤشرات على وجود فرصة للنظر في خريطة العلاقات الإقليمية، وبشكل عام، يتوقف النجاح في تطوير العلاقات الإقليمية على قدرة تركيا والسعودية على تسيير التعامل مع الحادث، من دون تدخل أطراف أخرى.
* د. خيري عمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة صقريا
المصدر: العربي الجديد