ثمة مجمع فكري – عسكري يعمل بخدمة سياسات صنّاع القرار والمجمع الصناعي – العسكري في الغرب.
أصوات قليلة تتجرّأ على التغريد خارج سرب «التضامن مع الأوكرانيين» ضدّ «الاجتياح الروسي» في أرجاء الغرب.
تم تحويل الحرب إلى قضيّة عادلة وشيطنة الخصوم وتصوير الحلفاء على أنهم أبطال، هي المهام المنوطة بالخبراء والمثقّفين.
“حرب أوكرانيا لم تستقرّ في طريق طويل وطاحن ومملّ كما يظنّ البعض، بل تزداد خطورة يوماً بعد يوم كلّما طال أمدها”.
“قمة الحماقة” تتمثّل بتسريب مسؤولين عسكريين أميركيين لمعلومات عن مساعدة أوكرانيا في قتل جنرالات روس وإغراق المدمّرة “موسكفا”.
انتقلت إدارة بايدن من حرب منخفضة التوتّر في بداية المجابهة لـ”استراتيجية الانتصار” على روسيا، وهي ستقابل بتصميم روسي على صدّ غزوة جديدة للبلاد.
“بايدن وحلفاؤه انتقلوا من دعم أوكرانيا ضد عدوان روسيا إلى إضعاف قوة روسيا ونفوذها تاركين لبوتين: الاستسلام أو تصعيد الحرب، ما يزيد احتمالات توسعها خارج أوكرانيا”.
قلق يتنامى بأوساط نخب أميركية وغربية من التفاؤل المفرط لدى صنّاع القرار الأميركي حيال إمكانية هزيمة روسيا، وسيتكاثر القلق بالمرحلة المقبلة مع استعار المواجهة وإمكانية توسُّع نطاقها.
حين يصبح هدف الحرب إلحاق هزيمة كاملة بروسيا، وتُفتح مخازن جيوش الغرب لإمداد أوكرانيا بأحدث منظومات تكنولوجية عسكرية، وترصد موازنات ضخمة لذلك، يصعب التكهّن بردّ فعل روسيا في معركة وجودية.
* * *
بقلم: وليد شرارة
“هذه حربنا”. وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، كانت الأوضح بين المسؤولين الأميركيين والبريطانيين في الإقرار بأن حلف “الناتو” طرف مباشر في الحرب الدائرة في أوكرانيا مع روسيا.
سبق لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن قال إن هدف هذه الحرب هو إضعاف هذا البلد، ولرئيسه جو بايدن أن اعتبر، خلال زيارته مصنعاً لإنتاج صواريخ “جافلين”، أن الأسلحة الأميركية في أيدي الأوكرانيين “تحوّل الجيش الروسي، في مناسبات كثيرة، إلى أضحوكة”.
وطالب الكونغرس بأن يوافق على تمويل إضافي بقيمة 33 مليار دولار لزيادة المساعدات العسكرية لكييف. لكن كلام الوزيرة البريطانية كان الأدقّ في توصيف حقيقة الموقف.
في بداية الحرب، حرص القادة الغربيون على التأكيد أنهم سيدعمون أوكرانيا عسكرياً وسياسياً ومادياً، دون أن يفضي ذلك إلى التورّط في صدام مباشر مع روسيا، لكن يبدو أن مثل هذا الحرص تراجع لدى بعضهم، ما يثير مخاوف في أوساط بعض نخبهم السياسية من احتمال التدحرج نحو حرب كبرى.
فحين يصبح هدف الحرب إلحاق الهزيمة الكاملة بروسيا، ويجري فتح مخازن الجيوش الغربية لإمداد أوكرانيا بأحدث منظوماتها التكنولوجية العسكرية، وترصد موازنات ضخمة لمساندتها، يصبح من الصعب التكهّن بردّ الفعل الروسي في سياق معركة تتّخذ طابعاً وجودياً، من منظور قيادتها.
إدارة بايدن انتقلت من حرب منخفضة التوتّر ضدّها في بداية المجابهة، لما يمكن تسميته بـ”استراتيجية الانتصار” عليها، وهي ستقابل بتصميم روسي على صدّ غزوة جديدة للبلاد، وفق ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين، في خطاب ذكرى الانتصار على النازية في الـ9 من الشهر الحالي.
التدحرج نحو الكارثة
أصوات قليلة تتجرّأ على التغريد خارج سرب “التضامن مع الأوكرانيين” ضدّ “الاجتياح الروسي” في أرجاء الغرب الديموقراطي، وتحديداً بالنسبة إلى خلفيات الحرب الجارية ومسؤوليات السياسات الغربية في اندلاعها. إجماع أيديولوجي – سياسي يفرض إرهاباً فكرياً فعلياً تجاه أيّ رأي نقدي يسود راهناً في ديار حرية الرأي والتعبير.
حول هذا الموضوع، يرى بيير كونيسا، الموظّف الفرنسي السابق في وزارة الدفاع والخبير في الشؤون الأمنية، في مقال في عدد أيار من “لوموند دبلوماتيك”، بعنوان “مثقفون بلباس عسكري”، أن:
“محاولة القادة السياسيين تبرير تدخّلاتهم العسكرية بين شعوبهم، أمر معروف، غير أن هذه العملية تتّخذ شكلاً فريداً في الديموقراطيات الغربية تفرضه سطوة وسائل الإعلام. تحويل الحرب إلى قضيّة عادلة وشيطنة الخصوم وتصوير الحلفاء على أنهم أبطال، هي المهام المنوطة بالخبراء والمثقّفين”.
لا يتردّد كونيسا في الحديث عن مجمع فكري – عسكري يعمل بخدمة سياسات صنّاع القرار والمجمع الصناعي – العسكري في الغرب. نقاش أسباب وخلفيّات الحرب ممنوع بكل بساطة، في وسائل الإعلام الرئيسة على الأقلّ.
غير أن نقاشاً انطلق في الآونة الأخيرة، يشارك فيه حتى بعض الأنصار المعروفين لدعم أوكرانيا، يتمحور حول المدى الذي ينبغي أن يصل إليه هذا الدعم وضرورة الحؤول دون صدام مباشر مع روسيا.
توماس فريدمان، منظّر “العولمة السعيدة” و”بايدني متحمّس”، حذّر، في مقال في “نيويورك تايمز”، من “قمة الحماقة” المتمثّلة بتسريب مسؤولين عسكريين أميركيين لمعلومات عن مساعدتهم لأوكرانيا في قتل جنرالات روس وإغراق المدمّرة “موسكفا”.
وأشار إلى أن “مثل هذا العمل الطائش يجب أن يتوقّف فوراً، قبل أن ينتهي الأمر بأميركا في حرب غير مقصودة مع روسيا… إن حرب أوكرانيا لم تستقرّ في طريق طويل وطاحن ومملّ كما يظنّ البعض، بل إنها تزداد خطورة يوماً بعد يوم كلّما طال أمدها”.
مايكل هيرش، أحد كبار كتاب “فورين بوليسي”، اعتبر، من جهته، في مقال على موقعها بعنوان “نهاية اللعبة الخطرة لبايدن في أوكرانيا: لا نهاية لعبة”، أن “بايدن وحلفاءه في الناتو قد انتقلوا من سياسة دعم أوكرانيا في مواجهة العدوان الروسي إلى سياسة إضعاف قوة روسيا ونفوذها. نتيجة لذلك، هم لا يتركون للرئيس الروسي سوى خيارَي الاستسلام أو تصعيد الحرب، ما يزيد احتمالات توسيعها إلى خارج حدود أوكرانيا”.
أمّا جورج بيب، رئيس قسم روسيا السابق في الاستخبارات المركزية، فقد اختار لمقاله على موقع “ريسبونسيبل ستيتكرافت” العنوان التالي: “أخبرونا كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا”، مستعيداً قولاً شهيراً لدايفيد بترايوس، الذي قاد قوات الاحتلال الأميركية في العراق، موجهاً لإدارة بوش الابن: “أخبروني كيف سينتهي هذا الأمر؟”.
يقارن بيب بين السيناريوات الانتصارية التي سادت ما بعد احتلال بغداد، وتلك الخاصة بإمكانية الانتصار على روسيا اليوم. ووفقاً لبيب، فإن “موسكو قد لا تكون قادرة على تحقيق انتصار حاسم في أوكرانيا، لكن من شبه المؤكد أنها تستطيع ضمان خسارة جميع الأطراف الأخرى إن هي خسرت، من خلال ما يمكن تسميته بسيناريو شمشون.
وكما كان ينبغي علينا أن نفعل في حالة العراق، سيكون من الحكمة الآن أن نفكّر في تعدُّد النهايات المحتملة لهذه الحرب لنتّخذ الخيارات الصائبة في السياسة التي نعتمدها”.
هذه المواقف، التي ذكرنا، على سبيل المثال لا الحصر ، تعكس قلقاً متنامياً في أوساط نخب أميركية وغربية من التفاؤل المفرط لدى صنّاع القرار في واشنطن حيال إمكانية هزيمة روسيا، وهي ستتكاثر على الأغلب في المرحلة المقبلة، مع استعار المواجهة وجلاء إمكانية توسُّع نطاقها.
موسكو مستعدّة للأسوأ
تضمّن الخطاب الذي ألقاه فلاديمير بوتين في ذكرى الانتصار على النازية نقطتَين جوهريتَين: الأولى هي التأكيد على الطابع الاستباقي للحرب، والثانية هي إبقاء الباب مفتوحاً أمام احتمال الحلّ السياسي.
هو كرّر مرّة أخرى ما سبق وركّز عليه في مناسبات عدّة، خلال العقدين الماضيين: استمرار زحف “الناتو” إلى جوار روسيا ممنوع، لكن عبثاً، لأن دوله “لم ترغب في سماعنا، حيث كانت لديهم خطط مختلفة تماماً”.
وبطبيعة الحال، فإن كل ما أفصح عنه القادة السياسيون والعسكريون، الأميركيون والبريطانيون خصوصاً، من حقد دفين حيال روسيا: “إضعافها”، “عزلها”، “تحويلها إلى دولة مارقة”، وربّما غداً تدميرها أو إفناؤها، أثبتت بالنسبة إلى بوتين صحّة تقديره للموقف، على اعتبار أنه يخوض معركة وجودية، وأن مَن يخطّط لإضعاف بلاده سيسعى بعدها للنيل من وحدتها الترابية وسيادتها.
لم ينسَ بوتين انهيار الاتحاد السوفياتي بفعل استراتيجية الاحتواء، ولا ما حلّ بروسيا من بعد ذلك، وكيف كانت على حافة التداعي والتفكُّك. هو أبقى الباب مفتوحاً للتفاوض في الخطاب المذكور، ولكن على قاعدة تلبية المطالب الأمنية والاستراتيجية التي أدّى تجاهلها إلى انفجار المعركة الحالية.
يقرّ خصومه، حتى ألدّهم، أن معدّلات شعبيته ارتفعت كثيراً بعد بدء الحرب، وأن القطاع الأعظم من الروس يشاطره القناعة بالطابع الوجودي للمعركة. هذا شرط رئيس للمضيّ قدماً واحتمال الأكلاف المختلفة، ورفع سقف المواجهة إن اقتضت الضرورة ذلك. هناك دواعٍ للقلق لدى الغربيين، حتى ولو كان قطاع معتَبَر منهم لا يعي ذلك بعد.
* د. وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: